الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          شبهات الكفار على الوحي والرسالة

                          هذا الغلو من بعض الناس في الأنبياء والرسل يقابله غلو آخرين منهم في إنكار رسالتهم واختصاص الله تعالى إليهم بوحيه إليهم ، فأولئك الغلاة أفرطوا في تصوير خصوصيتهم ، وزادوا فيها بأوهامهم وأهوائهم ، وهؤلاء فرطوا فيها ، فلم يروا لهم مزية يمتازون على غيرهم بها ، أولئك زادوا في بيان " حقيقتهم فضلا فصلهم من نوع الإنسان ، وهؤلاء جعلوا بشريتهم مانعة من امتيازهم على سائر أفراد الناس ، إذ رأوهم بشرا وظنوا أن الوحي يخرجهم منها فيجعلهم كالملائكة كما يزعم الغلاة - قال تعالى في هذه السورة : ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) ( 91 ) أي إنهم ما عرفوا الله حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه بإنكارهم قدرته على إنزال شيء من العلم على قلوب بعض البشر ، لاقتضاء علمه وحكمته أن يكونوا معلمين لسائر البشر ما فيه هدايتهم ، كما أن الغلاة فيهم ما قدروا الله حق قدره إذ زعموا أنه جعلهم شركاء له في علم الغيب ، والتصرف في ملكه بالعطاء والمنع .

                          وقد بينا في تفسير هذه الآية حقيقة الوحي ووجه حاجة البشر إليه ، واقتضاء حكمة الله وفضله الإنعام عليهم به فراجعه في ( ص 509 ج 7 ط الهيئة تفسير ) وهذه الشبهة شبهة كونهم بشرا قد ذكرت في سور كثيرة عند الكلام على رسالة الرسل كالأعراف وإبراهيم والنحل والكهف والأنبياء والشعراء ويس والتغابن ، وذكرت في بعض السور بلفظ رجل [ ص: 246 ] بدل بشر كقوله تعالى في أول سورة يونس : ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ) ( 10 : 1 ، 2 ) إلخ . وهذا في نبينا صلى الله عليه وسلم ومثله عن أول من كذبوا الرسل‌ وهم قوم نوح . قال تعالى في قصته من سورة الأعراف حكاية لخطابه إياهم : ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ) ( 7 : 63 ) ويليه حكاية مثل ذلك عن هود مع قومه ( آية 67 ) .

                          ولما استبعد هؤلاء الوحي لرجل من البشر كما حكاه عنهم في قوله : ( ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) ( 23 : 33 ، 34 ) زعموا أن الرسول من الله يجب أن يكون ملكا أو أن يؤيد بم‍لك يكون معه كما حكاه عنهم بقوله : ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) ( 25 : 7 ) وقد ردت هذه الشبهة في الآيتين الثامنة والتاسعة من هذه السورة ببيان سنة الله تعالى في إنزال الملائكة ، وببيان عدم استعداد جمهور البشر لرؤيتهم والتلقي عنهم في الدنيا ، وإنما يعد الله بعض الأفراد من كملتهم لذلك ، فلا مندوحة إذا أنزل الملك عن جعله رجلا ، أي متمثلا في صورة رجل ، وحينئذ يلتبس عليهم الأمر وتبقى شبهتهم في موضعها .

                          هذه الشبهة على الرسالة وهي كون الرسول بشرا مثل المرسل إليهم لم تدعم بحجة ولم تؤيد ببرهان ، بل هي باطلة بالبداهة لأنها تقييد لمشيئة المرسل وقدرته وهو الفعال لما يريد ( يختص برحمته من يشاء ) وقد كان أولئك المشتبهون مؤمنين بقدرته التامة ومشيئته العامة . بل كون الرسول إلى البشر بشرا مثلهم يفهمون أقواله ويتأسون بأفعاله هو المعقول الذي تقتضيه الفطرة وطبيعة الاجتماع ، ولكن الأوهام الجهلية تقلب الحقائق وتعكس القضايا حتى إن بعض القرويين في زماننا جاء إحدى المدن مرة فرأى الناس مجتمعين للاحتفال بوال جديد جاء من دار السلطنة ، فرغب أن يرى بعينيه الوالي الذي أرسله السلطان إليهم ، فلما مر أمامه وقيل له هذا هو استغرب أن يكون إنسانا ، وقال كلمة صارت مثلا وهي : حسبنا الوالي واليا فإذا هو إنسان أو رجل مثلنا .

                          وأخبرني محمود باشا الداماد أن بعض فلاحي الأناضول يتخيلون أن خلق السلطان مخالف لخلق سائر الناس وأن لحيته خضراء اللون ، ولهذا الضعف في كثير من البشر يلبس بعض رجال الأديان أزياء خاصة مؤثرة ، ويوفرون شعورهم لأجل استجلاب المهابة - فقوله تعالى : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) ( 6 : 9 ) كاشف لهذه الغمة من الوهم ، وهاد إلى ما يوافق سنن الفطرة من العلم ، وقاطع على الدجالين طريق الجبت والخرافات [ ص: 247 ] التي يخدعون بها أولي الأوهام والخيالات ، فيوهمونهم أن الأولياء والقديسين فوق مرتبة البشر ، ويقدرون على ما لا يقدر عليه غيرهم من البشر ، وأنهم عند الله تعالى كالوزراء ورؤساء الحجاب والأعوان عند الملوك المستبدين ، يقربون منه ويبعدون عنه من شاءوا ويحملونه على العطاء والمنع والضر والنفع كما يشاءون .

                          وجملة القول أن الله تعالى قد أبطل هذه الشبهة في الآيات 7 و 8 و 9 من هذه السورة وردها أكمل رد ، فراجع تفصيل القول في تفسيرهن ( ص 258 ج 7 ط الهيئة تفسير ) ثم بين في الآية ( 111 ) أنه لو نزل إليهم الملائكة وآتاهم كل شيء من الآيات مقابلا لهم ، أو حشره وجمعه لهم قبيلا بعد قبيل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ; لأنهم معاندون لا مريدو حق وطلاب دليل يعرفونه به . فيراجع تفسيرها في أول هذا الجزء .

                          تعجيزهم الرسول بطلب الآيات كان الجاهلون المعاندون من كفار مكة يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات على رسالته ، وكان بأمر الله تعالى يحتج ويستدل عليها بشهادة الله له وهي أنواع ، وبالقرآن الجامع لأقوى طرق الاستدلال العلمية ، والعقلية على كونه آية في نفسه من وجوه كثيرة ، وآية باعتبار كون من أنزل على قلبه وظهر على لسانه كان أميا لم يتعلم شيئا ما من أنواع العلوم الإلهية والشرعية والاجتماعية والتاريخية التي اشتمل عليها . وقد بينا وجوه دلالة القرآن على رسالته صلى الله عليه وسلم في مواضع من تفسير هذه السورة فراجع تفسير الآية 19 في ص282 ج 7 ط الهيئة تفسير . والآية 25 ص 289 ج 7 ط . الهيئة تفسير . والآية 37 ص 323 ج 7 ط الهيئة تفسير ، وفيه بيان كون القرآن أدل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الآية الكونية التي أوتيها موسى وعيسى وغيرهما - عليهم الصلاة والسلام - على رسالتهم ، والآية 50 ( ص 351 - 356 ج 7 ط الهيئة تفسير . وكذا الآية 5 من السورة ص 252 من هذا الجزء ) .

                          نعم إن آية القرآن أقوى الحجج وأظهر الدلالات وهي مشتملة ومرشدة إلى كثير من الآيات والبينات ، ولكن الذين كانوا يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات على صدقه لم يكونوا ينظرون في الآيات ولا يحفلون بأمر الاستدلال ، بل كانوا يعرضون عن كل آية لأنهم فريقان : فريق الرؤساء والكبراء الذين شغلهم الكبر والحسد للرسول والعداوة له عن النظر فيما جاء به من هدى وما أقام عليه من دليل ، وفريق المقلدين الذين ألفوا ما ورثوا عن آبائهم وأجدادهم فأعرضوا عن كل ما يخالفه ، ولا سيما إذا كان مزيفا له ومضللا لأهله ; ولهذا قال تعالى بعد افتتاح هذه السورة الكريمة بحمده ووصفه بما يثبت [ ص: 248 ] استحقاقه للحمد ، ومقارنة ذلك بما اتخذ الذين كفروا له من ند وعدل : ( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ) ( 4 ) وأنى يفقه الشيء من يعرض عنه ولا ينظر فيه ؟ .

                          وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن لإعراضهم ويود لو يؤتيه الله تعالى آية مما اقترحوا عليه من الآيات السماوية كإنزال الملك أو إنزال كتاب من السماء - أو الآيات الأرضية كتفجير ينبوع في مكة أو إعطائه جنة فيها يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، فهون الله تعالى عليه ذلك وعلمه ما لم يكن يعلم من طباع هؤلاء المعاندين وعدم استعدادهم للإيمان ، وكونهم يكذبون بكل آية يؤتونها كما كذب أمثالهم الرسل من قبله ، وبين له سنته في عذاب المكذبين بعد إيتائهم الآيات المقترحة بالاستئصال ، وفي خذلانهم ونصر الرسل عليهم ، وأمره أن يصبر على قومه كما صبروا على أقوامهم ويتحمل مثل ما تحملوا من أذاهم . ويخبرهم أن الآيات عند الله تعالى لا عنده . راجع تفسير الآيات 7 - 9 ص 258 وما بعدها ج 7 ط الهيئة تفسير لح و 25 و 26 ( ص 289 وما بعدها ج 7 ط الهيئة تفسير منه لح و 23 - 37 في ص 309 - 320 منه ) وآية 50 ( ص 351 منه ) و57 و58 ( في ص 377 منه ) و 65 - 67 ( ص 408 - 419 منه و 109 و 110 ص 553 ) إلى آخر الجزء السابع ط الهيئة و 111 في أول هذا الجزء و 124 - 126 ( ص32 وما بعدها منه ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية