الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          معارضة نصرانية سخيفة ، للفاتحة الشريفة

                          عرف كل من ذاق طعم البلاغة العربية من مؤمن وكافر أن القرآن أبلغ الكلام وأفصحه ، لم يكابر في ذلك مكابر ، ولم يجادل فيه مجادل ، وأن الفاتحة من أعلاه فصاحة وبلاغة وجمعا للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ، واشتمالا على مهمات الدين من صفات الله التي تجذب قلب من تدبرها إلى حبه ، وتنطق لسانه بحمده ، وتعلي همته بتوحيده . وتهذب نفسه بمعاني أسمائه وصفاته ، وإحاطة ربوبيته وملكه ، وتذكره يوم الدين الذي يجزى فيه على عمله ، وتوجه وجهه إلى السير على الصراط المستقيم في خاصة نفسه ، وفي معاملة الله ومعاملة خلقه ، وتذكره بالقدوة الصالحة في ذلك بإضافة الصراط الذي يتحرى الاستقامة عليه ، ويسأل الله توفيقه دائما له ، إلى من أسبغ الله عليهم نعمه ، ومنحهم رضوانه ، وجعلهم هداة خلقه بأقوالهم ، [ ص: 66 ] وأسوتهم الحسنة في أفعالهم ، ومثل الكمال في آدابهم وأخلاقهم ، من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، وتحذره من شرار الخلق الذين يؤثرون الباطل على الحق ، ويفضلون الشر على الخير ، على علم منهم بذلك . وهم المغضوب عليهم - أو على جهل به كالذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وهم الضالون . وهذا التحذير يتضمن حث المسلم المتعبد بالفاتحة المكرر لها في صلاته على العناية بتكميل نفسه بتحري التزام الحق وعمل الخير ، بأحكام العلم وتربية النفس والتمرن على العمل الصالح .

                          هذه السورة الجليلة التي ذكرناك أيها القارئ بمجمل مما فصلناه في تفسيرها يزعم أحد دعاة النصرانية في هذا العصر أنها بمعزل من البلاغة بأن ما بعد الصراط المستقيم فيها " حشو وتحصيل حاصل " وما قبله يمكن اختصاره بما لا يضيع شيئا من معناه ، كما فعله بعضهم ، قال هذا القول داعية من المبشرين المأجورين من قبل جمعيات التبشير الإنكليزية والأميركانية في كتاب لفقه في إبطال إعجاز القرآن بزعمه ، بل أنكر بلاغته من أصلها ؛ قال :

                          " وما أحسن قول بعضهم أنه لو قال : الحمد للرحمن ، رب الأكوان ، الملك الديان ، لك العبادة وبك المستعان ، اهدنا صراط الإيمان ، لأوجز وجمع كل المعنى وتخلص من ضعف التأليف والحشو والخروج عن الرديء كما بين الرحيم ونستعين " أ هـ .

                          أقول لقد كان خيرا لهذا المتعصب المأجور لإضلال عوام المسلمين على شرط ألا يذكر اسمه في كتيبه ، ولا يفضح نفسه بين قومه ، أن يختصر لمستأجريه آلهتهم وكتبهم التي صدت جميع مستقلي الفكر من أقوامهم وشعوبهم عن دينهم بل صدت بعضهم عن كل دين ، فإن اختصار الدراري السبع في السماء ، أهون من اختصار آيات الفاتحة السبع في الأرض . وحسب العالم من فضيحته إيراد سخافته هذه وتشهيره بها لو كان حيا يمشي بين الناس .

                          وأما العامي الجاهل ، الذي قد يغتر بقول كل قائل ، ولا سيما إذا كان في الطعن بغير دينه ، فربما يحتاج إلى التنبيه لبعض فضائح هذا الاختصار ، وإن كانت لا تخفى على أولي الأبصار ونكتفي منه بما يلي :

                          ( 1 ) إن أول شيء اختصره هذا الجاهل المتعصب وجعل ذكره مطعنا في فاتحة القرآن اسم الجلالة الأعظم ( الله ) الذي لا يغني عنه سرد جميع أسماء الله الحسنى ! فإنه هو اسم الذات الملاحظ معه اتصاف تلك الذات بجميع صفات الكمال إجمالا .

                          ( 2 ) أنه اختصر اسم الرحيم وقد بينا فائدته وأن اسم الرحمن لا يغني عنه ، وأنى لمثله أن يعلمه ؟ ويراجع الفرق بينهما فيما تقدم .

                          ( 3 ) أنه استبدل الأكوان بالعالمين وليس في هذا اختصار ، وإنما فيه استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وأولى ، فإن الأكوان جمع كون ، وهو في الأصل مصدر لا يجمع ، [ ص: 67 ] وله معان لا يصح إضافة اسم الرب إليها ، منها الحدث والصيرورة والكفالة ، ويطلقه عرب الجزيرة على الحرب لعلهم لا يستعملونه في غيرها ، وأما العالمون فجمع عالم ، وفي اشتقاقه التذكير بكونه علامة ودليلا على وجود خالقه ، وفي جمعه جمع العقلاء تذكير للقارئ بما في كلمة رب من معنى تربيته جل جلاله وعم نواله للأحياء ولا سيما الناس ، وكونهم يشكرونه عليها بقدر استعمال عقولهم ، ولذلك قال بعض الأعلام : إن لفظ العالمين عام مستعمل هنا في الخاص ، وهو عالم البشر ، وراجع سائر تفسيره المتقدم .

                          ( 4 ) أنه استبدل كلمة ( الديان ) بكلمة ( يوم الدين ) وهي لا تقوم مقامها ، ولا تفيد ما فيها من المعاني المطلوبة لذاتها ، فإن للديان في اللغة معاني منها القاضي والحاسب أو المحاسب والقاهر . وغاية ما يفيده وصف الرب بأنه حاكم يدين عباده ويجزيهم . وأما يوم الدين : فإنه اسم ليوم معين موصوف في كتاب الله بأوصاف عظيمة هائلة ، يحاسب الله فيه الخلائق ويحكم بينهم ويجزيهم ، والإيمان بهذا اليوم ركن من أركان الدين ، وإضافة ملك ومالك إليه تفيد أن الأمر كله في ذلك اليوم له وحده فلا يملك أحد لأحد فيه شيئا من نفع ولا من كشف ضر كما تقدم تفصيله في تفسير الآية - فاستحضار هذه المعاني في النفس له من التأثير المقوي لعقيدة التوحيد المرغب في العمل الصالح المرهب الزاخر عن الشر ، ما ليس لاسم الديان وحده ، ويكفي الإنسان في الجزم بهذا مشاورة فكره ، ومراجعة وجدانه ، وإن لم يكن يعلم من فنون البلاغة شيئا ، وهل لهذا المبشر المتعصب فكر ووجدان يهديانه إلى ما يجهل من بلاغة القرآن ؟

                          ( 5 ، 6 ) أنه اختصر قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) بقوله هو : لك العبادة وبك المستعان . وهو أغرب ما جاء به وسماه إيجازا ، فإنه استبدل أربعا بأربع ، ولكنها أطول منها بزيادة حرف ، وتنقص عنها في المعنى ، فأين الإيجاز ؟ إنه مفقود لفظا ومعنى .

                          إذا أراد بقوله : لك العبادة - أنها كلها له تعالى في الواقع ونفس الأمر ، فالجملة غير صحيحة ؛ لأن الذين لا يعبدونه وحده من البشر هم الأكثرون . ومنهم النصارى قوم الطاعن في دين التوحيد وكتاب التوحيد الأعظم ( القرآن ) المبدلين لآية التوحيد البليغة . وإن أراد أن العبادة مستحقة لله تعالى وحده فالمعنى صحيح ، لكنه لا يدل على أن القارئ ، ولا واضع الجملة من القائمين بهذا الحق له تعالى . وأما " إياك نعبد " فإنها تفيد عرض عبادة القارئ مع عبادة جميع المؤمنين الموحدين عليه جل جلاله ، وتقربهم إليه بأنهم يعبدونه ولا يعبدون غيره .

                          وأحيلك في الفرق بين تأثير هذا وذاك على الوجدان الذي ذكرتك به في النقد الذي قبله ، دع ما في عرض المؤمن عبادته واستعانته على ربه في ضمن عبادة جميع المؤمنين واستعانتهم [ ص: 68 ] من ملاحظة أخوة الإيمان وتكافل أهله ، ومن هضم الفرد لنفسه ، ورجاء القبول في ضمن الجماعة ، وغير ذلك مما يعلم من تفسير الآية .

                          ومثل هذا يقال في مسألة الاستعانة ، ويمكن الزيادة عليه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، ومنه اختياره المصدر الميمي الذي هو صيغة اسم المفعول ( المستعان ) على المصدر الأصلي وهو الاستعانة المناسب للفظ العبادة ، ومن جهة ارتباطه بما بعده ، فإن طلبنا للهداية من الاستعانة التي أسندناها إلى أنفسنا .

                          ( 7 ) استبداله " صراط الإيمان " بالصراط المستقيم ، وهذا أعم منه وأشمل ؛ لأنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان ، من العقائد والعبادات والآداب ، مع وصفه بالمستقيم الذي لا عوج فيه . فإن بعض الطرق الموصلة إلى المقاصد التي يسمى سالكها مهتديا إلى مقصده في الجملة ، قد يكون فيها عوج يعوق هذا السالك ، والمستقيم هو أقرب موصل بين طرفين فسالكه يصل إلى مقصده في أسرع وقت ، كذلك الطرق المعنوية ، منها الموصل إلى الغاية وغير الموصل ، ومن الموصل ما يوصل بسرعة لعدم العائق ، وما يعتري سالكه الموانع واقتحام لعقبات واتقاء العثرات .

                          ( 8 ) أن وصف الصراط المستقيم بكونه الصراط الذي سلكه خيار عباد الله المفلحين ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، مذكر لقارئه بأولئك الأئمة الوارثين ، الذين يجب التأسي بهم ، والسعي للانتظام في سلكهم ، والتصريح بكونه غير صراط المغضوب عليهم من المعاندين للحق ، وغير الضالين الزائغين عن القصد ، مذكر للقارئ بوجوب اجتناب سبلهم ، لئلا يتردى في هاويتهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية