الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم أمره تعالى أن ينفي عن نفسه علم الغيب مستدلا عليه بانتفاء أظهر منافعه القريبة فقال : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الخير ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية كالمال والعلم ، والسوء ما يرغبون عنه مما يسوءهم ويضرهم ، ويراد بهما هنا الجنس الذي يصدق ببعض أفراده وهو الخير الذي يمكن تداركه وتحصيله ، والسوء الذي يمكن الاستعداد لدفعه بعلم ما يأتي به الغد . والجملة استدلال على نفي علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغيب ، كأنه يقول : لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب ، ولو كنت أعلم الغيب - وأقربه ما يقع في مستقبل أيامي في الدنيا - لاستكثرت من الخير كالمال وأعمال البر التي تتوقف على معرفة ما يقع في المستقبل من عسرة وغلاء مثلا وتغير الأحوال ، ولما مسني السوء الذي يمكن الاحتياط لدفعه بعلم الغيب ، كشدة الحاجة مثلا ، ومن أمثلته في العبادة قوله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت " رواه الشيخان وغيرهما - يعني لو أنه علم - صلى الله عليه وسلم - ما يحصل من انفراده دون أصحابه بسوقه الهدي إلى الحرم من مشقة فسخهم الحج إلى عمرة دونه ; إذ لا يباح الفسخ والتحلل بالعمرة لمن معه الهدي ، لما ساق الهدي ليوافق الجمهور في تمتعهم بالعمرة إلى الحج . ومن أمثلته في الإدارة وسياسة الحرب ما عاتبه الله تعالى عليه من الإعراض عن الأعمى والتصدي للأغنياء ، ومن أخذ الفداء من أسرى بدر ، ومن الإذن بتخلف المنافقين في غزوة تبوك سنة العسرة ، ولم أر أحدا نبه على هذا النوع من المفسرين .

                          [ ص: 427 ] وفيه وجه آخر أنه مستأنف غير معطوف على ما قبله ، ومعناه : وما مسني الجنون كما زعم الجاهلون ، فيكون حاصل معنى الآية نفي رفعه إلى رتبة الربوبية الذي افتتن بمثله الغلاة ، ونفي وضعه في أدنى مرتبة البشرية الذي زعمته الغواة العتاة . وبيان حقيقة أمره ، وما رفع الله تعالى من قدره ، بجعله فوق جميع البشر بوحيه ، ووساطته بينه وبين خلقه ، لكن في التبليغ والإرشاد ، لا في الخلق والإيجاد ، ولا في تدبير أمور العباد ; فإن هذا شأن الربوبية ، وإنما هو صلوات الله عليه وسلامه في أعلى مقام العبودية .

                          ومن نكت البلاغة في القرآن بتقديم اللفظ على ما يقابله في آية وتأخيره في أخرى : تقديم النفع على الضر في هذه الآية ، وتأخيره وتقديم الضر عليه في آية سورة يونس المذكورة آنفا . والفرق المحسن لذلك أن آية الأعراف جاءت بعد السؤال عن الساعة أيان مرساها ؟ وأكبر فوائد العلم بالساعة ، وهو من علم الغيب - الاستعداد لها بالعمل الصالح ، واتقاء أسباب العقاب فيها ، فاقتضى ذلك البدء بنفي ملك النفع لنفسه بمثل هذا الاستعداد ، وتأخير ملك الضر المراد به ملك دفعه واتقاء وقوعه ، وأن يستدل على ذلك بما ذكر من أنه لو كان يعلم الغيب حتى فيما دون الساعة زمنا وعظم شأنه لاستكثر من الخير الذي يتعلق بالاستعداد للمستقبل ، واتقى أسباب ما يمسه من السوء فيه كالأمثلة التي ذكرناها .

                          وأما آية سورة يونس ، فقد وردت في سياق تماري الكفار فيما أوعدهم الله من العقاب على التكذيب بما جاءهم به رسوله من البينات والهدى ، واستعجالهم إياه تهكما ومبالغة في الجحود ، فناسب أن يذكر في جوابهم أنه لا يملك لنفسه ولا لهم ضرا كتعجيل العذاب الذي يكذبون به ، ولا نفعا كالنصر الذي يترتب على تعجيل العذاب لهم في الدنيا ، فقد أمره الله تعالى أن يبلغهم أن أمر عذابهم تعجيلا أو تأخيرا لله تعالى وحده ، كما أمره أن ينفي عن نفسه القدرة على ما اقترحوه من الآيات ، ومن ذلك ما ذكره تعالى من مقترحاتهم في سورة الإسراء من تفجير ينبوع في مكة ، وإيجاد جنة تتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو إسقاط السماء عليهم كسفا - وهو من العذاب - إلخ . ومن أمره تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم عن ذلك بقوله : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ( 17 : 93 ) وقال تعالى في هذه السورة أيضا : ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا ( 17 : 54 ) أي موكلا بأمر ثوابهم وعقابهم منفذا له ، وقال تعالى في سورة الرعد : وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ( 13 : 40 ) .

                          وهاك ما ورد في التفسير المأثور في الآية عن تفسير الحافظ ابن كثير قال : " أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه ، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل [ ص: 428 ] ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا ما أطلعه الله عليه ، كما قال تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ( 72 : 26 ) الآية ، وقوله : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير قال: لو كنت أعلم متى أموت لعملت عملا صالحا ، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وقال مثله ابن جريج ، وفيه نظر; لأن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ديمة ، وفي رواية كان إذا عمل عملا أثبته ، فجميع عمله كان على منوال واحد ، كأنه ينظر إلى الله عز وجل في جميع أحواله ، اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك والله أعلم . " والأحسن في هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير أي: من المال ، وفي رواية لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبني الفقر ، وقال ابن جرير وقال آخرون : معنى ذلك: لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ، ولوقت الغلاء من الرخص . وقال عبد الله بن زيد بن أسلم : وما مسني السوء قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون وأتقيه . " اهـ . وما قلناه أعم وأصح .

                          هذا وإننا قد بينا في تفسير قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ( 6 : 50 ) أن الغيب قسمان : حقيقي لا يعلمه إلا الله ، وإضافي يعلمه بعض الخلق دون بعض ، وأن هذه الآية تنفي قدرة الرسول على التصرف في خلق الله تعالى بما هو فوق كسب البشر ، وتنفي عنه علم الغيب بهذا المعنى ، إلا ما أعلمه الله تعالى به بوحيه لتعلقه بوظيفة الرسالة كالملائكة والحساب والثواب والعقاب - وأن ما يطلع الله عليه الرسل من ذلك لا يكون من علمهم الكسبي ، بل يدخل في معنى الإجماع على أن النبوة غير مكتسبة . وأوردنا هنالك قوله تعالى في ذلك من سورة الجن : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول إلى قوله ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ( 72 : 26 - 28 ) الآية ، واستطردنا إلى تفنيد ما يدعيه بعض مشايخ طرق الصوفية أو يدعى لهم ، من علم الغيب والتصرف في ملك الله أحياء أو أمواتا بما أغنى عن إعادته هنا ثم أطلنا البحث في علم الغيب في تفسير وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ( 6 : 59 ) الآية ، وتكلمنا فيه عن الكشف وغير ذلك من معرفة بعض الأمور المستقبلة المتعلقة بمسألة الغيب الإضافي أو التي لا يصح أن تسمى غيبا; لأن لها أسبابا فطرية . وفي الكلام على أشراط الساعة الذي مر بك قريبا بحث فيما أطلع الله عليه رسوله بما دون الوحي [ ص: 429 ] من بعض الحوادث المستقبلة ، كتمثل الأشياء له تمثلا متفاوتا في الوضوح . وهو لا يعارض هذه الآية كما علمت .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية