الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الباب الرابع

                          أصول التشريع وفيه 9 أصول

                          ( الأصل الأول ) بيان أن شارع الدين هو الله تعالى كما في الآية الثانية من السورة ، وتقدم في الباب الأول من هذه الخلاصة ، وهناك قد ذكر من حيث إنه حق الرب سبحانه وتعالى ، ويذكر هنا من حيث إنه الأصل الأول من أصول الأحكام التشريعية . والمراد بشرع الدين والتشريع الديني: ما يجب اتباعه وجوبا دينيا على أنه قربة يثاب فاعله ، ويعاقب تاركه في الآخرة . وأما التشريع الدنيوي الذي يحتاج إليه الناس في مصالحهم الدنيوية فقد أذن الله تعالى به في الإسلام للرسول ، ولأولي الأمر من المسلمين ، كما بيناه بالتفصيل الواسع في تفسير قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 4 : 59 ) [ ص: 475 ] واشترط في هذا الإذن أن يرد ما تنازعوا فيه من شيء إلى الله ورسوله ، بالرجوع إلى الكتاب ، وإلى الرسول في عهده ، وإلى سنته من بعده ، كما هو صريح في بقية الآية مع بيان علته ( راجع تفسيرها في ص146 - 180 ج 5 ط الهيئة ) .

                          ( الأصل الثاني ) تحريم التقليد في الدين ، والأخذ فيه بآراء البشر ، وهو نص النهي في الآية الثالثة معطوفا على الأمر باتباع ما أنزل إلى الناس من ربهم وهو : ولا تتبعوا من دونه أولياء ( 7 : 3 ) وقد صرح بذلك المفسرون . ومن النصوص في بطلانه الإنكار على احتجاج المشركين به في الآية 28 : وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها الآية ( راجع تفسيرها في ص 332 وما بعدها ج 8 ط الهيئة ) وفي الآية 173 .

                          ( الأصل الثالث ) تعظيم شأن النظر العقلي والتفكر ; لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ، ومعرفة آيات الله وسننه في خلقه وفضله على عباده ، فمن ذلك قوله تعالى في آية 33 : وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا السلطان: البرهان ، فتقييد تحريم الشرك بانتفائه تعظيم لشأنه . ومنه قوله في آخر الآية 169 : أفلا تعقلون وسيذكر في الأصل الرابع . ومنه قوله تعالى بعد ضرب المثل للمكذبين بآياته من آية 176 : فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ومنه قوله في الآية 184 : أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة وفي الآية 185 : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء إلخ . - والآية الجامعة في هذا المعنى قوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ( 179 ) وهي شاملة للنظر العقلي المحض ، ولكل ما كان مصدره الرؤية والسماع ، وهما أعم وأكثر مصادر العلم .

                          ( الأصل الرابع ) تعظيم شأن العلم الشامل للعلم النقلي وهو ما أنزل الله من الكتاب والحكمة ، وما بينه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من سنة ، والعلم المستفاد من الحس والعقل ، والمراد من العلم هنا متعلق المصدر وهو المعلومات ، ففارق ما قبله . ومن الآيات في ذلك قوله في آخر الآية 28 : أتقولون على الله ما لا تعلمون وقوله في آخر الآية 32 : كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون وهي من النوع الثاني ; لأن موضوع الآية مسألة الأمر بالأكل من الطيبات وبالزينة والإنكار على من حرمهما ، وهي من مسائل علم الاجتماع والمصالح البشرية كما فصلناه في تفسيرها ، راجع ص 338 وما بعدها ج 8 ط الهيئة ) وقوله تعالى في آخر آية 33 التي بين فيها أنواع المحرمات العامة : وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون السلطان البرهان - وقوله تعالى في آخر آية 131 : ولكن أكثرهم لا يعلمون وهو في زعم آل فرعون وخرافاتهم أن ما ينالهم من الحسنات [ ص: 476 ] والخيرات فهو حق لهم ، وأن ما ينالهم من السيئات فهو بشؤم موسى وقومه وتطيرهم بهم . والعلم المنفي عنهم هنا هو العلم بسنن الله في طباع البشر والأسباب والمسببات في العالم - وقوله تعالى في حكاية توبيخ موسى عليه الصلاة والسلام لقومه على مطالبتهم إياه بأن يجعل لهم إلها كآلهة الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم من آخر الآية 138 إنكم قوم تجهلون وما علل به الحكم بجهلهم في الآيتين بعدها ، فهذه جامعة لبيان فضل العلم النقلي والعلم العقلي ، وذم الجهل بهما معا ، فإن موسى عليه السلام علل تجهيلهم أولا بعلة عقلية ، وثانيا بعلة دينية عقلية . فراجع تفسيرهن في ( ص91 - 101 ج 9 ط الهيئة ) وقوله تعالى في الآية 169 : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه وهو من العلم النقلي ، ولكنه أيد بالعقلي في ختم الآية بقوله أفلا تعقلون .

                          فهذه الشواهد على هذا الأصل ، وما قبله المؤيدة بأضعافها في السور الأخرى ، تثبت تعظيم القرآن لشأن التفكر والنظر والاستدلال; لتحصيل العلم بالله وشرائعه المنزلة ، وبسننه وآياته في خلقه ونعمه على عباده - وتعظيم شأن جميع العلوم النافعة من نقلية وعقلية وهي حجة على نقص أهل الجهل بها .

                          ( الأصلان الخامس والسادس ) أمر الناس بأخذ زينتهم عند كل مسجد ، وبالأكل والشرب من الطيبات المستلذات ، والإنكار على من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات ومن الرزق ، وبيان أنها حق للذين آمنوا في الحياة الدنيا أولا ، وبالذات بقيد عدم الاعتداء والإسراف فيها ، وإن شاركهم غيرهم فيها بعموم فضل الله لا باستحقاقهم ، وأنها تكون خالصة لهم في الآخرة ، وذلك نص الآيتين 31 و 32 وهذان الأصلان هما الركنان اللذان يقوم عليهما بناء الحضارة بعلومها وفنونها وصناعاتها ، وإظهارها لما في هذا الكون من سنن الله تعالى وآياته ، وأسرار صنعه الدالة على توحيده وقدرته وحكمته وإحسانه على عباده - وهما المبطلان لأساس الديانة البرهمية من جعل مقصد الدين تعذيب النفس ، وحرمانها من الزينة واللذة ، وقلدهم في ذلكالنصارى ، وابتدعوا الرهبانية لأجله ، ولم يقفوا عند حد تقليدهم في الدنيا حتى زعموا أن دار النعيم في الآخرة خالية من اللذات الجسدية ، وليس فيها إلا النعيم الروحاني ، خلافا لبعض تصريحات الإنجيل من شرب الخمر في الملكوت ، وكون الصائمين والجياع والعطاش من أجل البر يشبعون هنالك .

                          ولما كان الغلو في الدين كغيره من أمور البشر يقوى الاستعداد له في بعض الناس من كل أمة ، بدأ بعض الصحابة المبالغين في العبادة بترك أكل اللحوم ، وهم بعضهم بالاختصاء ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وعن المبالغة في العبادة ، ونزل في شأنهم : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ( 5 : 87 ) الآيات من سورة المائدة وهي بمعنى ما هنا .

                          [ ص: 477 ] ولم يمنع ذلك كله بعض مسلمي المتصوفة من الغلو في ترك الزينة والطيبات ، وصار الجاهلون بكنه الإسلام يعدون الغلو في ذلك هو الكمال في الدين ، وأهله من أولياء الله المقربين ، وإن كانوا جاهلين خرافيين . ويراجع ما في تفسيرنا للآيتين من الأحكام والحكم والفوائد ، ومنها ما لم يكن يخطر في بال أحد من مفسرينا المتقدمين رحمهم الله تعالى ( ص338 - 350 ج 8 ط الهيئة ) .

                          ( الأصل السابع ) هداية الناس بالحق والعدل به ، وقد وصف الله تعالى بذلك خيار قوم موسى عليه السلام في آية 159 ، وخيار أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الآية 181 ، فهذا من أصول دين الله العامة في جميع شرائعه . والحق هو الأمر الثابت المتحقق في الشرع إن كان شرعيا ، وفي الواقع ونفس الأمر إن كان أمرا وجوديا ، والعدل ما تحري به الحق من غير ميل إلى طرف من الطرفين أو الأطراف المتنازعة فيه أو المتعلقة به . ويدخل في هذا الأصل الدعوة إلى الحق والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتضحية العامة والخاصة والإصلاح بين الناس .

                          ومنه الأمر بالعدل المطلق في الأحكام والأعمال بقوله : قل أمر ربي بالقسط ( 29 ) وهذا هو الأصل العام لجميع الأحكام بين الناس . كما قال تعالى في سورة النساء المدنية إذ صار للأمة حكم ودولة : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ( 4 : 58 ) وفي سورة النساء والمائدة آيات أخرى في وجوب عموم العدل والمساواة فيه بين المؤمن والكافر والبر والفاجر والغني والفقير والقريب والبعيد ، وقد تقدمت مع تفسيرها . فمن تحرى العدل بغير محاباة وعرف مكانه فحكم به ، كان حاكما بحكم الله تعالى من غير حاجة إلى نص خاص في الشريعة به ، فإن وجد النص كانت الثقة بالعدل أتم بل لا حاجة مع النص إلى الاجتهاد ، كما أن الاجتهاد المخالف للنص الخاص أو للعدل العام باطل .

                          ( الأصل الثامن ) حصر أنواع المحرمات الدينية العامة في قوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( 33 ) يراجع بيان وجه الحصر في تفسيرها ( ص351 - 357 ج 8 ط الهيئة ) .

                          ( الأصل التاسع ) بيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية الجامعة بأوجز عبارة معجزة في قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( 199 ) فيراجع تفسيرها في موضعه من هذا الجزء .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية