الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الطغيان والركون إلى الظالمين سبب الحرمان من النصر ) :

                          ( الشاهد التاسع ) قوله - تعالى - : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا 112 وقوله بعدها : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار 113 فيهما من سنن الله - تعالى - في الاجتماع أن الطغيان والركون إلى الظالمين من أسباب هلاك الأمم وحرمانهم من النصر على أعدائهم ، وهذا يشترك مع الظلم في شواهده الآتية :

                          ( الشواهد : العاشر - الخامس عشر على إهلاك الأمم بالظلم ) :

                          ( في الآيات 100 - 102 و 112 و 113 و 116 و 117 ) :

                          أولها في هذا السياق قوله - عز وجل - لرسوله خاتم النبيين : ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد 100 والثانية : وما ظلمناهم 101 أي بإهلاكهم ، [ ص: 203 ] بل أنذرناهم عاقبة ظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم ظلما عاما فكان هلاكهم عاما ، وكان أكبر ظلمهم الشرك ، فكانوا يدعون آلهتهم أن تدفع عنهم العذاب ، فاتكلوا عليها في دفع ما أنذرهم الرسل فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء 101 الآية .

                          هذا معنى لا يكابر فيه أحد يدعي التوحيد والإيمان بالقرآن ، ولكن كثيرا من الجاهلين بعقائد القرآن إذا بينت لهم ما يخالف تقاليدهم منها أنكروه ، وأول ما ينكرونه أساسها الأعظم وهو توحيد الله ومعنى الشرك به منها ، إذ هم يظنون أن شرك أولئك الأقوام عبارة عن عبادة أصنام وأوثان من الجماد يتكلون عليها لذاتها . فإذا قيل لهم : إن أصله الغلو في الصالحين ولا سيما الميتين منهم ، واعتقاد تصرفهم في الكون ، ودعاؤهم في طلب النفع ودفع الضر ، وأن مثله أو منه ما كان يحكى عن مسلمي بخارى أن شاه نقشبند هو الحامي لها ، فلن تستطيع الدولة الروسية الاستيلاء عليها ، وما كان يحكى عن مسلمي المغرب الأقصى من حماية مولاي إدريس لفاس وسائر المغرب أن تستولي عليها فرنسة ، أنكروا على القائل : إن هذا كذاك ، وقالوا : إنما هو توسل بجاه الأولياء عند الله ، وليس من المنكر أن يدفعوها بكرامتهم . فكرامة الأموات ثابتة كالأحياء ، وقد بينا لهم جهلهم هذا بتبدل الأسماء ، ومخالفته لكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله ، وسيرة السلف الصالح من الأمة في فتوحاتهم وتأسيس ملكهم وحفظه ، وخصصنا إخواننا أهل المغرب الأقصى بالإنذار منذ أنشئ المنار ، وأرشدناهم إلى تنظيم قواتهم الدفاعية العسكرية ، وطلب الضباط له من الدولة العثمانية ، وإلى العلوم والفنون المرشدة إلى القوة والثروة والنظام ، وإلا ذهبت بلادهم من أيديهم قطعا . فقال المغوون لهم من أهل الطرائق القدد بلسان حالهم أو مقالهم : إن صاحب المنار معتزلي منكر لكرامات الأولياء ، وما هو بمعتزلي ولا أشعري ، بل هو قرآني سني ، وها هي ذي فرنسة استولت على بلادهم كما أنذرهم ، وظهر أن أكبر مشايخ الطريق نفوذا ودعوى للكرامات بالباطل كالتيجانية ، كانوا وما زالوا من خدمة فرنسة ومساعديها على فتح البلاد ، واستعباد أهلها أو إخراجهم من دين الإسلام إلى الإلحاد أو النصرانية من حيث يدرون أو لا يدرون .

                          يجهل أمثال هؤلاء وغيرهم من الذين يظنون أن الشرك بالله - تعالى - خاص بعبادة الأصنام والأوثان ، أن أصل هذا الشرك هو الغلو في تعظيم الصالحين ، والتبرك أو التوسل بأشخاصهم لإبطال سنن الله - تعالى - وأولهم قوم نوح ، فقد كانت آلهتهم ( ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ) رجالا صالحين غلوا في تعظيمهم بعد موتهم ، ووضعوا لهم الصور والتماثيل [ ص: 204 ] للتذكير بهم كما رواه البخاري عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - فكانوا يعتقدون أن أولئك الصالحين هم الذين ينفعون ويضرون ، ويدفعون العذاب بكراماتهم أو بشفاعتهم عند الله لا تماثيلهم .

                          بل نرى هؤلاء وأمثالهم من الذين يلجئون إلى قبورهم الصالحين ؛ لدعائهم أو ما يسمونه التوسل بهم في مثل ذلك ، يجهلون جميع عقائد القرآن وسنن الله - تعالى - فيه التي أجملناها في خلاصة هذه السورة ، من التوحيد ووظائف الرسل ، إلى هذه السنن في إهلاك الظالمين ، وأمثالها في غير هذه السورة .

                          وأكبر مصائب الإسلام أن افتتان المسلمين بالصالحين الذي اتبعوا فيه سنن من قبلهم ( ( شبرا بشبر وذراعا بذراع ) ) كما أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - قد كان سببا لإلحاد فريق كبير من الذين يتعلمون علوم العصر ومنها سنن الخلق والاجتماع ، ومروقهم من الدين باعتقادهم أن الإسلام دين خرافي هو الذي أضاع ملك المسلمين ، حتى إن حكومة الترك الحاضرة تركت الإسلام الحق المنزه عن الخرافات ، وعادى رئيسها ومؤسسها القرآن والسنة ولغتهما وحروفهما بما لم يسبق له نظير في عهد الجاهلية والصليبيين فظلت أعناقهم لها خاضعين 26 : 4 .

                          وخلاصة معنى الآية الثانية ( 102 ) أن أخذ الله القرى الظالمة عند استحقاقهم له في المستقبل سيكون على نحو أخذه لها في الماضي ، أليما شديدا لا هوادة ولا رحمة ولا محاباة .

                          وخلاصة الثالثة والرابعة ( 112 و 113 ) أمر الله لرسوله بالاستقامة هو ومن تاب معه كما أمر ، ونهيهم عن الطغيان والإفراط فيه ، وعن الركون إلى الظالمين من المشركين المشبهة حالهم في قريتهم ( مكة ) لحال أولئك الظالمين من أهل القرى المهلكة ؛ لأجل أن ينجيهم من العذاب إذا وقع عليهم أتباع أولئك الرسل قبيل إهلاك قومهم ؛ لأن سنته - تعالى - في عباده واحدة .

                          وخلاصة الخامسة ( 166 ) أن الوسيلة لمنع وقوع العذاب بالأمم الظالمة ، هو وجود أولي بقية فيها ينهون عن الفساد في الأرض فيطاعون ، إذ بفقدهم يتبع الظالمون ما أترفوا فيه فيكونون مجرمين فيهلكون ، إن لم يكن باستئصالهم فبذهاب استقلالهم .

                          وخلاصة السادسة ( 117 ) أنه لم يكن من شأن الله - تعالى - ولا من سنته في عباده أن يهلك القرى بظلم منه وأهلها مصلحون في أعمالهم وأحكامهم ، وهذا هو الأساس الأعظم لعلم الاجتماع في حياة الأمم وموتها وعزتها وذلها ، فراجع تفسيرها .

                          إن علماء الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وأئمة الأمصار الذين ورثوا لغة القرآن بالسليقة وسنة النبي وبيانه له بالاتباع ، كانوا يفهمون هذه السنن الإلهية في الخلق ويهتدون بها ، وإن لم يضعوا لها قواعد علمية وفنية لتفقيه من بعدهم فيها ، ثم زالت سليقة اللغة من [ ص: 205 ] علماء المولدين ، فصاروا يفسرون القرآن بقواعد الفنون التي وضعوها للغة وللدين بقدر معارفهم الممزوجة بما ورثوا وما كسبوا من الشعوب التي اهتدت بالإسلام ، ولم يكن علم الاجتماع مما دونه أحد ، فلهذا لا نرى في تفاسيرهم شيئا من هذه السنن الخاصة بسياسة الأمم ، بل تنكبوا هداية القرآن فيها فكانت عاقبة أمرهم ما نشكو منه ونحاول تلافيه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية