الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فإن كان له إخوة أي الميت مع إرث أبويه له فلأمه السدس مما ترك ، سواء كان الإخوة ذكورا ، أو إناثا من الأبوين ، أو من أحدهما ، كل جمع منهم يحجب الأم من الثلث إلى السدس ، ولا يحجبها الواحد . واختلفوا في الأخوين أو الأختين ، فأكثر الصحابة على أنهما كالجمع في حجب الأم من الثلث إلى السدس ، وعليه العمل من الصدر الأول ، وخالف فيه ابن عباس ، فقد روي أنه قال لعثمان : بم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس ، وإنما قال الله - تعالى - : فإن كان له إخوة والأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ، ومضى في الأمصار . فقول ابن عباس : إن الاثنين لا يعدان جمعا ، وإجازة عثمان له حجة على أن أقل الجمع ثلاثة ، وهو المختار عند جمهور علماء الأصول ، وقال بعضهم : إن أقله اثنان وهو مذهب أبي بكر الباقلاني ، واحتجوا له بقوله - تعالى - : فقد صغت قلوبكما [ 66 : 4 ] وليس للمخاطبتين بهذا إلا قلبان . وهو احتجاج ضعيف ، فالعرب إنما تجمع المثنى إذا أضافته إلى ضميره كراهة الجمع بين تثنيتين . واحتجوا بحديث الاثنان فما فوقهما جماعة وهو حديث ضعيف رواه ابن ماجه ، والدارقطني ، والحاكم من حديث أبي موسى ، ويقويه حديث أبي أمامة عند أحمد " هذان جماعة " ، وما أورده البخاري في معناه ، ولكن الكلام في هذه الأحاديث ليس في الجمع اللغوي ، وإنما هو في أقل ما تحصل به فضيلة صلاة الجماعة ، وهو إمام ومأموم . واحتجوا بقوله - تعالى - : فإن كن نساء فوق اثنتين فوصف النساء بالزيادة على اثنتين يفيد أن لفظ النساء يطلق على الاثنتين ، وهو - كما ترى - ليس بقوي ، ولو كان القرآن يدل على ذلك لما قال ابن عباس ما قال ، ووافقه عليه عثمان . جرى على ذلك جمهور الأصوليين ، فقالوا : إن صيغة الجمع وحقيقته في الثلاثة فما فوق ، فإن استعملت في الاثنين كانت مجازا .

                          إذا ما هو دليل الجمهور على حجب الأم بالأخوين ، وبالأختين ، وهو ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون ( رضي الله عنهم ) ، وليس ابن عباس بأعلم منهم ، ولا أدق فهما في القرآن ؟ الظاهر لنا أن اللغة إذا لم تدل في أصلها على دخول الاثنين في إطلاق صيغة الجمع ، ولو على قلة ، بمثل ما ذكرناه آنفا من الشواهد . فلنا أن نقول : إن الشرع قد جعل للاثنين حكم الجمع في صلاة الجماعة ، والإرث ، إذ جعل للأختين ، والبنتين الثلثين كالجمع من البنات ، والأخوات إذا لم يكن هنالك ذكر كما تقدم آنفا ، وإذا جاز لنا أن نقول : إن البنتين المسكوت عنهما كالأختين المنصوص عليهما ، والأخوات المسكوت عنهن كالبنات المنصوص عليهن ; لأنه - تعالى - بين في أحكام كل منهما ما حذف نظيره من مقابله ، وحذف من كل منهما ما بين [ ص: 342 ] نظيره في الآخر على طريقة الاحتباك كقوله : قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا [ 72 : 21 ] أي لا ضرا ، ولا نفعا ، ولا رشدا ، ولا إغواء ، وقوله : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا [ 76 : 13 ] أي لا شمسا ، ولا قمرا ، ولا حرا ، ولا زمهريرا - إذا جاز لنا هذا وعددناه من منطوق القرآن ، أو مفهومه أفلا يجوز لنا أن نقول : إن الأخوين والأختين لهما حكم الإخوة ، والأخوات في حجب الأم أيضا ; لأنه تقرر عدم الفصل في هذا المقام بين المثنى والجمع ؟ بلى ، وبهذا عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون ومن بعدهم ، فخلاف ابن عباس ( رضي الله عنه ) بناء على ظاهر استعمال اللغة لا ينافي هذا الاصطلاح الشرعي ، واللغة على وضعها ، ولا مشاحة في الاصطلاح .

                          ولكن له هاهنا رأيا آخر يخالف فيه الجمهور ، ربما كان أقرب مما قالوا إلى المعقول ، وهو أن الإخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس يأخذون السدس الذي حجبوها عنه ، وما بقي يكون للأب ، فهو يرى أنه لا معنى لحجبهم إياها إلا أخذهم لما نقص من فرضها ، وهو المعهود في سائر مسائل الحجب ، فإن من لا يرث لا يحجب ، ولا يعقل أن يكون وجودهم سببا لزيادة نصيب الأب فقط ، وأما الجمهور فيقولون : إن الآية بينت أنهم يحجبون ، وليس فيها أنهم يأخذون شيئا ، فيكون ما بقي - وهو خمسة أسداس - كله للأب ، سدس منه بالفرض لأن فرضه كفرضها ، والباقي بالتعصيب ، فقول الجمهور هنا أقرب إلى لفظ القرآن ، وقولهم السابق أقرب إلى معناه ، وقول ابن عباس بالعكس في الموضعين .

                          ذكرت الآية حكم الأبوين مع الولد وحكمهما منفردين ليس معهما وارث آخر ، وحكمهما مع الإخوة ، وبقي حكمهما مع الزوج ، وإن شئت فقل: أحد الزوجين . وفي هذه المسألة خلاف بين جمهور الصحابة ، وابن عباس ( رضي الله عنه ) ، فالجمهور على أن الزوج يأخذ نصيبه وهو النصف إن كان رجلا ، والربع إن كان أنثى ، ويكون الباقي للأبوين ثلثه للأم ، وباقيه للأب . وقال ابن عباس : يأخذ الزوج نصيبه ، وتأخذ الأم الثلث ، أي ثلث التركة كلها ، ويأخذ الأب ما بقي . وقال : لا أجد في كتاب الله ثلث الباقي ، وفي المسألة صورتان ، أو هما مسألتان ، ويسميهما الفرضيون بالعمريتين ، وبالغراوين ، وبالغريبتين :

                          ( إحداهما ) : زوجة وأبوان : للزوجة الربع ، وهو 3 من 12 وللأم ثلث الباقي عند الجمهور ، وهو 3 وللأب الباقي ، وهو 6 فيجري حظ الأبوين على قاعدة " للذكر مثل حظ الأنثيين " ، وللأم ثلث الأصل على رأي ابن عباس ، وهو 4 من 12 وللأب الباقي ، وهو 5 فلا يجري على القاعدة .

                          ( وثانيتهما ) : زوج وأبوان : للزوج النصف 6 من 12 وللأم ثلث الباقي عند الجمهور 2 من 12 وللأب الباقي 4 على القاعدة ، وأما على رأي ابن عباس فللأم ثلث الأصل وهو [ ص: 343 ] 4 من 12 وللأب الباقي ، وهو اثنان ، فيكون على عكس القاعدة ، إذ يكون للأنثى مثل حظ الذكرين . فرأي الجمهور هو الموافق للقرآن في القاعدة التي تقررت في كل من الأولاد والإخوة ، وفي الوالدين مع الإخوة كما تقدم ، وفي الزوجين كما في الآية التالية ، وابن عباس وافق ظاهر اللفظ فقط .

                          ومن الاعتبار في هذا : أن حقوق الزوجية مقدمة في الإرث على حقوق الوالدين ، فإن الوالدين إنما يتقاسمان ما يبقى بعد أخذ الزوج حصته ، قال بعضهم في توجيه هذا : إن الزوجين لما كان يتوارثان بالزوجية العارضة لا بالقرابة كان فرضهما من قبيل الوصية له التقديم ، ويؤخذ من أصل التركة ، ويقسم الباقي بين الوالدين ، والوارثين بالقرابة .

                          ونقول : لو كان كذلك لاطرد تقديم فرض الزوج مع الأولاد ، والإخوة ، فقدم كالوصية ، وقسم الباقي بين الأولاد ، أو الإخوة ، وليس الأمر كذلك ، وإنما وجهه عندي أن حق الأزواج في الأموال والنفقات آكد من حق الوالدين ، وإن كانا أشرف ، وأجدر من الزوج بالاحترام . ذلك أن الوالدين يكونان عند زواج الولد عريقين في الاستقلال بأنفسهما في المعيشة من جهة ، وأقل حاجة إلى المال من الأولاد ، وأزواجهم الذين أو اللواتي في سنهم غالبا لانصرام أكثر أعمارهما ، ولأنهما إذا احتاجا إلى مال الأولاد كان ذلك على مجموع أولادهما ، وأما الزوجان فإنهما يعيشان مجتمعين كل منهما متمم لوجود الآخر حتى كأنه نصف ماهيته ، ويكون ذلك بانفصال كل منهما عن والديه لاتصاله بالآخر . فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد ; ولهذا تقرر في الشريعة أن يكون حق المرأة على الرجل في النفقة هو الحق الأول ، فإذا لم يجد إلا رغيفين وسد رمقه بأحدهما وجب عليه أن يجعل الثاني لامرأته لا لأحد أبويه ولا لغيرهما من أقاربه . فصلة الزوجية أشد وأقوى صلة حيوية اجتماعية حتى إن صلة البنوة فرع منها ، وإن كان حق الأولاد أقوى من جهة أخرى كما تقدم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية