الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إعجاز القرآن بعجز الزمان عن إبطال شيء منه :

                          ( الوجه السادس ) : أن القرآن يشتمل على بيان كثير من آيات الله تعالى في جميع أنواع المخلوقات من الجماد والنبات والحيوان والإنسان ، ويصف خلق السماوات وشمسها وقمرها ودراريها ونجومها والأرض والهواء والسحاب والماء من بحار وأنهار وعيون وينابيع ، وفيه تفصيل لكثير من أخبار الأمم ، وبيان لطريق التشريع السوي للأمم ، وقد حفظ ذلك كله فيه بكلمه وحروفه منذ ثلاثة عشر قرنا ونيف ، ثم عجزت هذه القرون التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون أن تنقض بناء آية من آياته ، أو تبطل حكما من أحكامه ، أو تكذب خبرا من أخباره ، وهي التي جعلت فلسفة اليونان دكا ، ونسخت شرائع الأمم نسخا ، وتركت سائر علوم الأوائل قاعا صفصفا ، ووضعت لأخبار التاريخ قواعد فلسفية ، ورجعت في تحقيقها إلى ما عثر عليه المنقبون من الآثار العادية ، وحكمت فيها أصول العمران ، وما يسمونه سنن الاجتماع ، بحيث لم تبق لعلماء الأوائل كتابا غير مدعثر الأعضاد ساقط العماد .

                          وهذا النوع من أنواع الإعجاز غير ما تقدم من سلامته من التعارض والاختلاف ، فتلك في الماضي ، وهذه في الحاضر والمستقبل ، ذاك الاختلاف يقع من الناس بقلة العرفان ، [ ص: 173 ] وبضعف البيان ، أو بما يطرأ على صاحبه من الذهول والنسيان ، يريد بيان شيء فيخونه قلمه ولسانه ، ويعوزه أن يحيط بأطرافه ، وأن يجليه تمام التجلي لقارئ كلامه أو سامعه ثم يقول فيه قولا آخر على علم فتواتيه العبارة فيؤدي المراد ، فيختلف ما أبدأ مع ما أعاد ، أو يقول القول ثم ينساه ، فيأتي بما يخالفه في معناه ، أو يتكلم بما لا يعلم ، فيهرف بما لا يعرف ، وذلك عيب في الكلام وضعف في المتكلم هو من شأن البشر .

                          إن ما يأخذه الناس من المسائل العلمية والفلسفية بالتسليم في زمانهم ثم يظهر ما يبطل تلك المسلمات ، وينقص ما بنيت عليه من النظريات ، لا يعد عيبا في قائله ، ولا ضعفا في بيانه ، وإن كان موضوعه بيان تلك المسائل نفسها ؛ لأنه مما لا يسلم منه البشر . وأما من يتكلم في بعض مسائل الموجودات لبيان العبرة فيها ، أو الحث على الاستفادة منها ، لا لبيان حقيقتها في نفسها ، أو صفاتها الفنية عند أهل فنها ، فهو لا يكلف أن يبين تلك الحقيقة أو تلك الصفات التي تتعلق بغرضه من الكلام بالاصطلاحات العلمية والفنية ، وقد ينتقد منه هذا إذا كان مما يصرف السامع عن مراده منه ، أو يوجب نقصا في استفادته منه ، كما هو شأن الذين يعظون دهماء الناس من جميع الطبقات ويضربون لهم الأمثال بآيات الله تعالى ونعمه فيما سخر لهم من المخلوقات ، فإذا كان هذا النوع من الكلام والذي لا يعاب فيه مخالفته للمسائل الفنية - وقد يعاب فيه تكلف موافقتها - جاء مع ذلك إما موافقا وإما غير مخالف لمعارف أهل العصر الذي خوطب أهله به ، ثم تبين أن بعض هذه المعارف كانت جهلا ، وظهر أنه موافق لما تجدد من العلم الحق والتشريع العدل أو غير مخالف له ، فلا شك في أن هذه تعد له مزية خارقة للمعتاد في البشر ، وقد ثبت هذا القرآن وحده ، فهو كتاب مشتمل على كثير من أمور العالم الكونية والاجتماعية ، مرت العصور وتقلبت أحوال البشر في العلوم والأعمال ولم يظهر فيه خطأ قطعي في شيء منها ، لهذا صح أن تجعل سلامته من هذا الخطأ ضربا من ضروب إعجازه للبشر ، وإن لم يكن هذا مما تحدى له الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عجز البشر عن مثله ؛ لأنه لم يكن ليظهر إلا من بعده ، فادخر ليكون حجة على أهله .

                          فإن قيل : إن الطاعنين في الإسلام من الملاحدة ودعاة النصرانية يزعمون أن العلوم والفنون العصرية ، من طبيعية وفلكية وتاريخية ، قد نقضت بعض آيات القرآن في موضوعها ، وأن التشريع العصري أقرب إلى مصالح البشر من تشريعه .

                          قلت : إننا قد اطلعنا على أقوالهم في ذلك فألفينا أن بعضها جاء من سوء فهمهم أو فهم بعض المفسرين ، ومن جمود الفقهاء المقلدين ، وبعضها من التحريف والتضليل ، وقد رددنا نحن وغيرنا ما وقفنا عليه منها . وإنما العبرة بالنقض الذي لا يمكن لأحد أن يماري فيه مراء ظاهرا مقبولا ، ولو وجد شيء من هذا في القرآن لاضطرب العالم له اضطرابا عظيما ، كما أن [ ص: 174 ] العبرة في التشريع بما جمع بين المصلحة العامة والفضيلة والرحمة ، والتشريع الإسلامي يفضل التشريع الأوربي المادي بهذا ويسبقه إلى السؤال ، وقد سبقه إلى العدل والمساواة .

                          ( فإن قيل ) : إن كهنة أهل الكتاب يدعون مثلكم أن كتبهم المقدسة سالمة من التعارض والتناقض ومخالفة حقائق الوجود الثابتة ويتكلفون مثلكم لرد ما يورده عليهم علماء الكون والمؤرخون مخالفا لتلك الكتب .

                          ( قلت ) : ( إن هذا النوع من مخالفة كلام الخالق لكلام الخلق يجب أن يكون مشتركا بين القرآن وغيره من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل ، لو بقيت كما أنزلت من غير تحريف ولا تبديل ، ومن المعلوم من التاريخ بالقطع عندنا وعندهم أن التوراة التي كتبها موسى - عليه السلام - ووضعها في التابوت ( صندوق العهد ) وأخذ الميثاق على بني إسرائيل بحفظها كما هو منصوص في آخر سفر ( تثنية الاشتراع ) قد فقدت من الوجود عندما أغار البابليون على اليهود وأحرقوا هيكل بيت المقدس ، والتوراة الموجودة الآن يرجع أصلها إلى ما كتبه عزرا الكاهن بأمر " ارتحشستا " ملك فارس الذي أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى أورشليم ، وأذن له أن يكتب لهم كتابا من شريعة الرب وشريعة الملك ، ولذلك تكثر فيها الألفاظ البابلية كثرة فاحشة ، وقد بينا تحقيق ذلك في تفسير أول سورة آل عمران ، وبعض آيات من سورة النساء والمائدة ، كما بينا أن إنجيل المسيح - عليه السلام - لم يدون في عصره ولم ينقل عنه وعن الحواريين كما نقل القرآن تواترا بالحفظ والكتابة ، ولا كنقل الحديث بالأسانيد المتصلة ، وإنما ظهرت هذه الأناجيل التي هي قصص مختصرة له واشتهرت بعد ثلاثة قرون ، كما ظهر عشرات غيرها ، فاعتمد أربعة منها رؤساء الكنيسة التي أسسها قسطنطين ملك الروم الذي تنصر تنصرا سياسيا ، وأدخل النصرانية في دور جديد ممزوج بالوثنية ورفضوا الباقي ، كما بيناه مفصلا في الآيات التي أشرنا إليها آنفا في الكلام على التوراة ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية