الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى إلخ .

                          قال الأستاذ الإمام : لما بين الله - تعالى - في الآية التي قبل هذه وعده بالجزاء الحسن للذين يتناجون بالخير ويبتغون بنفع الناس مرضاة الله - عز وجل - ، أراد أن يبين في هذه الآية وعيده لأولئك الذين يتناجون بالشر ، ويبيتون ما يكيدون به للناس فهو يقول : إن أولئك القوم مشاقون للرسول إذا كانوا يفعلون ما يفعلون بعد أن ظهرت لهم الهداية على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، وقامت عليهم الحجة بحقيقة ما جاء به ، وأما من لم تتبين لهم الهداية فلا يستحقون هذا الوعيد ، وهم متفاوتون ، فمن نظر منهم في الدليل فلم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص فهو معذور غير مؤاخذ كالذي لم تبلغه الدعوة ، وعليه جمهور الأشاعرة ، والمشاقة بعد تبين الهدى إنما تكون عنادا وعصبية أو اتباعا لشهوة تفوت بهذه الهداية ، اهـ .

                          أقول : المشاقة المعاداة ، مشتقة من شق العصا ، أو هي مفاعلة من الشق ، كأن كل واحد من المتعادين يكون في شق غير الذي فيه الآخر كما قالوا ، والكلام جاء بصيغة العموم وهو يصدق على طعمة ، كما ذكر في قصته وعلى قليل من الناس منهم بعض علماء اليهود في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما قلنا : إنه يصدق على قليل من الناس ; لأن أكثر الناس فطروا على ترجيح الهدى على الضلال والحق على الباطل والخير على الشر إذا تبين لهم ذلك وعرفوه ، وناهيك بمن دخل فيه وعمل به ورأى الفرق بينه وبين ما كان عليه هو وقومه "كطعمة " ولا يشترط في هذا الترجيح الفطري والعمل به أن يكون قد تبين بالبرهان اليقيني المنطقي الذي لا يقبل النقض ، بل يكفي أن يظهر للمرء أن هذا هو الهدى أو أنه أهدى من مقابله إذا كان هناك مقابل ، وسبب هذا ومنشؤه أن الإنسان فطر على حب نفسه وحب الخير والسعادة لها والسعي إلى ذلك واتقاء ما ينافيه ويحول دونه ; لذلك كانت شريعة الإسلام التي هي دين الفطرة مبنية على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح ، فكل ما حرم فيها على الناس فهو ضار بهم ، وكل ما فرض عليهم أو استحب لهم فيها فهو [ ص: 336 ] نافع لهم ; ولهذا كان غير معقول أن يتركها أحد بعد أن يعرفها وتتبين له ، وكان إن وقع لا بد له من سبب ، وهو ما أشار إليه القرآن الحكيم في قوله - تعالى - : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ( 2 : 130 ) ، أي : لا أحد يرغب عنها إلا من احتقر نفسه وأزراها بالسفه والجهالة ، ونحن نبين أصناف الناس في اتباع الهدى وتركه وسبب ذلك فنقول :

                          ( الصنف الأول ) : من تبين له الهدى بالبرهان الصحيح ، ووصل فيه إلى حق اليقين ، وهذا لا يمكن أن يرجع عنه اعتقادا ، ويندر جدا أن يرجع عنه عملا وللأستاذ الإمام كلمة فيه كاليقين في الحق كلاهما قليل في الناس ، وهو يعني الرجوع بالعمل ، إذ الإنسان يملك من عمله ما لا يملك من اعتقاده ، فمن كان موقنا بأن المخلوق لا يكون إلها ولا شريكا لله يؤثر في إرادته ويحمله على فعل ما لم يكن ليفعله لولاه لا يستطيع بعد اليقين الحقيقي في ذلك أن يعتقد أن المسيح أو غيره ممن عبد ومما عبد من دون الله أو مع الله آلهة أو شركاء لله ، ولكنه يستطيع ويدخل في إمكانه أن يدعوها من دون الله أو مع الله ، وأن يعبدها بغير الدعاء أيضا كالتمسح بها والتعظيم الذي يعده أهلها من شعائر العبادات ، لا من عموم العبادات وهو وإن كان يستطيع ما أشرنا إليه من عباداتها لا يفعله ، أي : لا يرجع عن الحق بالعمل ، إلا أن يكون لما أشرنا إليه من السبب ، وسنبينه بعد .

                          ( الصنف الثاني ) : من تبين لهم الهدى بالدلائل المعتادة التي يرجح بها بعض الأشياء على بعض بحسب أفهامهم وعقولهم ، لا بالبرهان المنطقي المؤلف من اليقينيات البديهية أو المنتهية إليها ، وهؤلاء لا يرجعون عن الهدى إلى الضلال ، وهم يعلمون أنه الهدى بهذا النوع من العلم الذي أشرنا إليه ; إذ يكفي أنهم معتقدون به أنهم على الحق والخير والصلاح ، فلا يشاقان من جاءهم بذلك ولا يتبعون غير سبيل أهله إلا لسبب يقل وقوعه كما سيأتي .

                          ( الصنف الثالث ) : من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به من الناس كآبائه وخاصة أهله ورؤساء قومه ، وهذا لا يدخل فيمن تبين لهم الحق والهدى ; لأنه لم يتبين لهم شيء ; ولذلك يتركون الهدى إلى كل ما يقرهم عليه رؤساؤهم من البدع والضلالات كما هو مشاهد في جميع الملل والأديان .

                          ( الصنف الرابع ) : من لم يتبع الهدى ; لأنه نشأ على تقليد أهل الضلال ، فلما دعي إلى الهدى لم ينظر في دعوة النبي الذي دعي إلى دينه ، ولا تأمل في دليله لأنه صدق الرؤساء الذين قلدهم بأنه ليس أهلا للاستدلال ، وأن الله حرم عليه وعلى أمثاله النظر في الأدلة والبينات ، وفرض عليهم أن يقلدوا أهل الاجتهاد ، ومن ينقل إليهم مذاهبهم من العلماء ، فمن قلد عالما لقي الله سالما ، ومن نظر واستدل زل وضل ، وهذا ما كان عليه جمهور أهل الكتاب في زمن [ ص: 337 ] بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وكذلك غيرهم من أصحاب الأديان المدونة كالمجوس ، وأمثال هؤلاء إذا ترك رؤساؤهم دينهم أو مذهبهم يتبعونهم في الغالب ، ولا سيما إذا دخلوا في مذهب أو دين جديد ليس بينهم وبين أهله عداوات دينية ولا سياسية تنفرهم تنفيرا طبيعيا ولذلك دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ملوكهم ورؤساءهم إلى الإسلام وكتب لكل رئيس أن عليه إثم قومه أو مرءوسيه إذا هو تولى عن الإيمان ، ولم يجب دعوة الإسلام .

                          ( الصنف الخامس ) : كالذي قبله في التقليد لأهل الضلال تعظيما لجمهور قومه ومن نشأ على احترامهم من آبائه وأجداده ، واستبعادا لكونهم كانوا متفقين على اتباع الضلال ، وأن يكون هذا الداعي قد عرف الهدى من دونهم ، أو أوحي إليه ولم يوح إليهم ، وهذا ما كانت عليه عامة العرب عند ظهور الإسلام ، والآيات المبينة لحالهم هذه كثيرة ليس هذا محل سردها ، وإنما الفرق بينهم وبين مقلدة أهل الكتاب ، والأديان المدونة ذات الكتب والهياكل والرؤساء الروحيين أن تقليد هؤلاء العرب أضعف وجذبهم إلى النظر والاستدلال أسهل وكذلك كان ، وهو من أسباب ظهور الإسلام فيهم دون سائر الناس .

                          ( الصنف السادس ) : علماء الأديان الجدليون المغرورون بما عندهم من العلم الناقص بها ، الذين دعوا إلى الهدى فلم يتولوا عنه اتباعا لرؤساء فوقهم ، ولم ينظروا فيه بالاستقلال والإخلاص ، بل أعرضوا احتقارا له ; لأنه غير ما جروا عليه ووثقوا به ، وجعلوه مناط عظمتهم ، وحسبوه منتهى سعادتهم ، وهم في الحقيقة مقلدون كعامتهم ، ولكن عندهم من الصوارف عن قبول الهدى ما ليس عند العامة من معرفة عظمة أسلافهم الذين ينتمون إليهم وما ينسب إليهم من العلم والصلاح والفضائل والكرامات ، ومن الأدلة الجدلية على حقيقة ما هم عليه .

                          ( الصنف السابع ) : الذين بلغتهم دعوة الهدى على غير وجهها الصحيح المحرك للنظر ، فلم ينظروا فيها ولم يبالوا بها لأنهم رأوها بديهية البطلان ، ومن هؤلاء أكثر كفار هذا الزمان الذين لا يبلغهم عن الإسلام إلا أنه دين من جملة الأديان الكثيرة المخترعة فيه وفي هذه من العيوب والأباطيل وما هو كذا وكذا ، كما اخترع وافترى رؤساء النصرانية وغيرهم على الإسلام ، ولا سيما ما كتبوه قبل تأليب الشعوب الأوربية على الحرب الشهيرة بالصليبية ، فهؤلاء لا يبحثون عن حقيقة الإسلام ، كما أن المسلمين لا يبحثون عن دين " المورمون " مثلا .

                          ( الصنف الثامن ) : من بلغتهم دعوة الهدى على وجهها أو غير وجهها فنظروا فيها بالإخلاص ولم تظهر لهم حقيقتها ولا تبينت لهم هدايتها ، فتركوها وتركوا إعادة النظر فيها .

                          ( الصنف التاسع ) : هم أهل الاستقلال الذين نظروا في الدعوة كمن سبقهم ، ولا يتركون النظر والاستدلال إذا لم يظهر لهم الحق من أول وهلة ، بل يعودون إليه ويدأبون طول [ ص: 338 ] عمرهم عليه ، وهم الذين نقل الأستاذ الإمام عن محققي الأشاعرة القول بنجاتهم لعذرهم .

                          ( الصنف العاشر ) : من لم تبلغهم دعوة الحق والهدى البتة ، وهم الذين يعبر عنهم بعضهم بأهل الفترة ، ومذهب الأشاعرة أنهم معذورون وناجون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية