الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) . الغلو : الإفراط وتجاوز الحد في الأمر - فإذا كان في الدين ، فهو تجاوز حد الوحي المنزل إلى ما تهوى الأنفس ; كجعل الأنبياء والصالحين أربابا ينفعون ويضرون بسلطة غيبية لهم ، فوق سنن الله في الأسباب والمسببات الكسبية ، واتخاذهم لأجل ذلك آلهة يعبدون ، فيدعون من دون الله تعالى أو مع الله تعالى . سواء أطلق عليهم لقب الرب والإله ، كما فعلت النصارى ، أم لا ، وكشرع عبادات لم يأذن بها الله ، وتحريم ما لم يحرم الله ; كالطيبات التي حرمها القسوس والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم ; مبالغة في التنسك ، سواء كان ذلك لوجه الله ، أم كان رياء وسمعة - نهى الله تعالى أهل الكتاب الذين كانوا في عصر نزول القرآن عن هذا الغلو ، الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم ، وعن التقليد الذي كان سبب ضلالتهم . فذكرهم بأن الذين كانوا قبلهم قد ضلوا باتباع أهوائهم في الدين وعدم اتباعهم فيه سنة الرسل والنبيين والصالحين من الحواريين ، فكل أولئك كانوا موحدين ، ولم يكونوا مفرطين ولا مفرطين ، وإنما كانوا للشرك والغلو في الدين منكرين ، فهذا التثليث ، وهذه الطقوس الكنيسية الشديدة المستحدثة من بعدهم ، ابتدعها قوم اتبعوا أهواءهم ، فضلوا بها ، وأضلوا كثيرا ممن اتبعهم في بدعهم وضلالهم .

                          وأما الضلال الثاني ، الذي ختمت به الآية ، فقد فسر بإعراضهم عن الإسلام ، كما فسر الضلال الأول بما كان قبل الإسلام ، فالإسلام هو سواء السبيل ; أي وسطه الذي لا غلو فيه ، ولا تفريط ; لتحتيمه الاتباع ، وتحريمه الابتداع والتقليد .

                          ويجوز أن يكون الضلال الأول ضلال الابتداع والزيادة في الدين ، والضلال الثاني جهل حقيقة الدين وجوهره ، وكونه وسطا بين أطراف مذمومة ؛ كالتوحيد بين الشرك والتعطيل ، واتباع الوحي بين الابتداع والتقليد ، والسخاء بين البخل والتقتير . . . إلخ .

                          فإن قيل : كيف غلب على غلاة بني إسرائيل ذلك الضلال والإضلال ، وآثر أكثرهم [ ص: 406 ] اتباع الهوى على هدي الأنبياء ؟ وبماذا آخذهم الله تعالى على هذا الإصرار ؟ فالجواب عن ذلك قوله ، عز وجل : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) اللعن : أشد ما يعبر الله تعالى به عن مقته وغضبه ; فالملعون هو المحروم من لطفه وعنايته ، البعيد عن هبوط رأفته ورحمته ، وقد كان داود عليه السلام لعن الذين اعتدوا منهم في السبت ، أو العاصين المعتدين عامة ، والمعتدين في السبت خاصة ، ثم لعنهم عيسى عليه السلام وهو آخر الأنبياء المرسلين منهم ، وإنما كان سبب ذلك اللعن من الله الذي استمر هذا الاستمرار عصيانهم له عز وجل ، واعتداءهم الممتد المستمر ، كما يدل عليه قوله تعالى : ( وكانوا يعتدون ) .

                          وقد بين - جل ذكره - ذلك العصيان وسبب استمرارهم على تعدي حدود الله وإصرارهم عليه بقوله : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر ما من المنكرات ، مهما اشتد قبحها وعظم ضررها ، وإنما النهي عن المنكر حفاظ الدين وسياج الآداب والفضائل ، فإذا ترك تجرأ الفساق على إظهار فسقهم وفجورهم ، ومتى صار الدهماء يرون المنكرات بأعينهم ، ويسمعونها بآذانهم ، تزول وحشتها وقبحها من أنفسهم ، ثم يتجرأ الكثيرون أو الأكثرون على اقترافها . فالإخبار بهذا الشأن من شئونهم إخبار بفشو المنكرات فيهم ، وانتشار مفاسدها بينهم ; لأن وجود العلة يقتضي وجود المعلول ، ولولا استمرار وقوع المنكرات لما صح أن يكون ترك التناهي شأنا من شئون القوم ، ودأبا من دءوبهم .

                          ( وقد بسطنا القول في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تفسير : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير 3 : 104 ) الآية ، فليراجع في ( ص22 ج4 ط الهيئة ) وسنعود إليه إن شاء الله تعالى ) .

                          ( لبئس ما كانوا يفعلون ) هذا تأكيد قسمي لذم ما كانوا يفعلونه ، مصرين عليه ، من اقتراف المنكرات ، والسكوت عليها ، والرضاء بها ، وكفى بذلك إفسادا .

                          ذلك شأنهم ودأبهم الذي مردوا وأصروا عليه ، بينه الله تعالى لرسوله وللمؤمنين ; عبرة لهم ، حتى لا يفعلوا فعلهم ، فيكونوا مثلهم ، ويحل بهم من لعنة الله وغضبه ما حل بهم . روى أبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وغيرهم من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول يا هذا اتق الله ، ودع ما تصنع ; فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده . فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال : ( لعن الذين كفروا ) إلى قوله : ( فاسقون ) ثم قال صلى الله [ ص: 407 ] عليه وسلم : كلا والله ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ثم لتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ، ثم يلعنكم كما لعنهم " ، وورد في هذا المعنى عدة أحاديث ، فهل من معتبر أو مدكر ؟ ! بل رأينا من آثار غضب الله تعالى مثلما رأى بنو إسرائيل أو قريبا منه ، وقد عرفنا سببه ولم نتركه ، ونراه يزداد بالإصرار على السبب ، ولا نتوب ، ولا نتذكر ! ! فإلى متى ؟ إلى متى ؟ !

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية