الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1424 حديث حاد وثلاثون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ ( منه شيئا ) ، فإنما أقطع له قطعة من النار .

[ ص: 216 ]

التالي السابق


[ ص: 216 ] هذا حديث لم يختلف ، عن مالك في إسناده فيما علمت ، ورواه كما رواه مالك سواء ، عن هشام بإسناده هذا جماعة من الأئمة الحفاظ ، منهم الثوري ، وابن عيينة ، والقطان وغيرهم ، وقد رواه معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث هشام سواء ، وقد روى هذا المعنى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة كما روته أم سلمة .

وفي هذا الحديث من الفقه أن البشر لا يعلمون ما غيب عنهم وستر من الضمائر وغيرها ؛ لأنه قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : إنما أنا بشر أي : إني من البشر ، ولا أدري باطن ما تتحاكمون فيه عندي وتختصمون فيه إلي ، وإنما أقضي بينكم على ظاهر ما تقولون وتدلون به من الحجاج ، فإذا كان الأنبياء لا يعلمون ذلك ، فغير جائز أن يصح دعوى ذلك لأحد غيرهم من كاهن أو منجم ، وإنما يعلم الأنبياء من الغيب ما أعلموا به بوجه من وجوه الوحي .

وفيه أن بعض الناس أدرى بموقع الحجة وتصرف القول من بعض ، قال أبو عبيد : معنى قوله : ألحن بحجته ، يعني : أفطن لها وأحدى بها . قال أبو عبيدة : اللحن - بفتح الحاء - الفطنة ، واللحن - بالجزم - الخطأ في القول .

وفيه أن بعض الناس أدرى بموقع الحجة وتصرف القول من بعض ، قال أبو بينات : على حسبما أحكمته السنة في ذلك ، وفي ذلك رد وإبطال للحكم بالهوى ، قال الله - عز وجل - : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) الآية .

وقد احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في رد حكم القاضي بعلمه لقوله : فأقضي له على نحو ما أسمع منه ولم يقل على نحو ما علمت منه ، قال : وإنما تعبدنا بالبينة والإقرار ، وهو المسموع الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أقضي على نحو ما أسمع قال : والعلة في القضاء بالبينة دون [ ص: 217 ] العلم التهمة ؛ لأنه يدعي ما لا يعلم إلا من جهته ، وقد أجمعوا أن القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قتل من لم يجب قتله من المسلمين لم يرثه ، وهذا لموضع التهمة ، وأجمعوا على أنه لا يقضي بعلمه في الحدود .

قال أبو عمر : من أفضل ما يحتج به في أن القاضي لا يقضي بعلمه ، حديث معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا جهم على صدقة ، فلاجه رجل في فريضة ، فوقع بينهم شجاج ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وخبروه فأعطاهم الأرش ثم قال : إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم ؟ قالوا : نعم ، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( المنبر ) فخطب وذكر القصة ، وقال : أرضيتم ؟ قالوا : لا ، فهم بهم المهاجرون ، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم ثم صعد فخطب ، فقال : أرضيتم ؟ فقالوا : نعم وهذا بين ؛ لأنه لم يؤاخذهم بعلمه فيهم ، ولا قضى بذلك عليهم وقد علم رضاهم .

ومن حجة من ذهب إلى أن القاضي له أن يقضي بما علمه ؛ لأن البينة إنما تعلمه بما ليس عنده ليعلمه فيقضي به ، وقد تكون كاذبة وواهمة وعلمه بالشيء أوكد ، وقد أجمعوا على أن له أن يعدل لبعض العدول بعلمه ، فكذلك ما علم صحته ، وأجمعوا أيضا على أنه إذا علم أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا به أنه ينفذ علمه في ذلك دون شهادتهم ولا يقضي .

[ ص: 218 ] واحتج بعضهم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة زوجه أن تحتجب من ابن وليدة زمعة لما علمه ورآه من شبهه بعتبة ، وقالوا : إنما يقضي بما يسمع فيما طريقه السمع من الإقرار أو البينة ، وفيما طريقه علمه قضى بعلمه ، ولهم في هذا الباب منازعات أكثرها تشغيب ، والسلف من الصحابة والتابعين مختلفون في قضاء القاضي بعلمه على حسب اختلاف فقهاء الأمصار في ذلك .

ومما احتج به من ذهب إلى أن القاضي يقضي بعلمه مع ما قدمنا ذكره ما رويناه من طرق عن عروة ، عن مجاهد جميعا بمعنى واحد ، أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا من مكة ، فقال عمر : إني لأعلم الناس بذلك ، وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان ، فإذا قدمت مكة فائتني بأبي سفيان ، فلما قدم مكة أتاه المخزومي بأبي سفيان ، فقال له عمر : يا أبا سفيان ، انهض إلى موضع كذا ، فنهض ونظر عمر ، فقال : يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من هاهنا فضعه هاهنا . فقال : والله لا أفعل ، فقال : والله لتفعلن ، فقال : لا أفعل . فعلاه عمر بالدرة وقال : خذه لا أم لك وضعه هاهنا ، فإنك ما علمت قديم الظلم ، فأخذ الحجر أبو سفيان ووضعه حيث قال عمر ، ثم إن عمر استقبل القبلة فقال : اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام ، قال : فاستقبل أبو سفيان القبلة وقال : اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لعمر .

ففي هذا الخبر قضى عمر بعلمه فيما قد علمه قبل ولايته ، وإلى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي وأبو ثور سواء عندهم علمه قبل أن يلي القضاء أو بعد ذلك ، في مصره كان أو في غير مصره ، له أن يقضي في ذلك [ ص: 219 ] كله عندهم بعلمه ؛ لأن يقينه في ذلك أكثر من شهادة الشهود الذين لا يقطع على غيب ما شهدوا به كما يقطع على صحة ما علموا .

وقال أبو حنيفة : ما علمه قبل أن يلي القضاء أو رآه في غير مصره لم يقض فيه بعلمه ، وما علمه بعد أن استقضى أو رآه بمصره قضى في ذلك بعلمه ولم يحتج في ذلك إلى غيره ، واتفق أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يقضي القاضي بعلمه في شيء من الحدود لا فيما علمه قبل ولا بعد ، ولا فيما رآه بمصره ولا بغير مصره .

وقال الشافعي وأبو ثور : حقوق الناس وحقوق الله سواء في ذلك ، والحدود وغيرها سواء في ذلك ، وجائز أن يقضي القاضي في ذلك كله بما علمه .

وقال مالك وأصحابه : لا يقضي القاضي في شيء من ذلك كله بما علمه ، حدا كان أو غير حد ، لا قبل ولايته ولا بعدها ، ولا يقضي إلا بالبينات والإقرار ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد ، وهو قول شريح والشعبي ، وفي قوله - عليه السلام - : فأقضي له على نحو ما أسمع منه دليل على إبطال القضاء بالظن والاستحسان وإيجاب القضاء بالظاهر ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في المتلاعنين بظاهر أمرهما وما ادعاه كل واحد منهما ونفاه ، فأحلفهما بأيمان اللعان ولم يلتفت إلى غير ذلك بل قال : إن جاءت به على كذا وكذا فهو للزوج ، وإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به ، فجاءت به على النعت المكروه ، فلم يلتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك ، بل أمضى حكم الله فيهما بعد أن سمع منهما ولم يعرج على الممكن ، ولا أوجب بالشبهة حكما ، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أقضي على نحو ما أسمع .

[ ص: 220 ] وأما قوله - عليه السلام - : فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، فإنه بيان واضح في أن قضاء القاضي بالظاهر الذي تعبد به لا يحل في الباطن حراما قد علمه الذي قضى له به ، وأن حكمه بالظاهر بينهم لا يحل لهم ما حرم الله عليهم ، مثال ذلك : رجل ادعى على رجل بدعوى وأقام عليه بينة زور كاذبة ، فقضى القاضي بشهادتهم بظاهر عدالتهم عنده وألزم المدعى عليه ما شهدوا به ، فإنه لا يحل ذلك للمدعي إذا علم أنه لا شيء له عنده ، وأن بينته كاذبة ، إما من جهة تعمد الكذب أو من جهة الغلط .

ومما احتج به الشافعي وغيره لقضاء القاضي بعلمه حديث عبادة : وأن تقوم بالحق حيث ما كنا لا تخاف في الله لومة لائم ، وقوله : ( كونوا قوامين بالقسط ) ، وحديث عائشة في قصة هند بنت أبي سفيان قوله : خذي ما يكفيك وولدك . وكذلك لو ثبت على رجل لرجل حق بإقرار أو بينة فادعى دفعه إليه والبراءة منه ، وهو صادق في دعواه ولم يكن له بينة وجحده المدعي الدفع إليه ، وحلف له عليه وقبض منه ذلك الحق مرة أخرى بقضاء قاض ، فإن ذلك ممن قطع له أيضا قطعة من النار ، ولا يحل له قضاء القاضي بالظاهر ما حرم الله عليه في الباطن ، ومثل هذا كثير . قال الله - عز وجل - : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) وهذه الآية في معنى هذا الحديث سواء .

[ ص: 221 ] قال معمر ، عن قتادة في قوله : ( وتدلوا بها إلى الحكام ) قال : لا تدلي بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك له ظالم ، فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما عليك .

قال أبو عمر : وعلى هذه المعاني كلها المذكورة في هذا الحديث المستنبطة منه جرى مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وداود وسائر الفقهاء ، كلهم قد جعل هذا الحديث أصلا في هذا الباب .

وجاء عن أبي حنيفة وأبي يوسف ، وروي ذلك عن الشعبي قبلهما في رجلين تعمدا الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته فقبل القاضي عدالتهما عنده وهما قد تعمدا الكذب في ذلك أو غلطا أو وهما ، ففرق القاضي بين الرجل وامرأته بشهادتهما ، ثم اعتدت المرأة ، أنه جائز لأحدهما أن يتزوجها وهو عالم أنه كاذب في شهادته وعالم بأن زوجها لم يطلقها ؛ لأن حكم الحاكم لما أحلها للأزواج كان الشهود وغيرهم في ذلك سواء ، وهذا إجماع أنها تحل للأزواج غير الشهود مع الاستدلال بفرقة المتلاعنين من غير طلاق يوقعه .

وقال من خالفهم من الفقهاء : هذا خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، ومن حق هذا الرجل عصمة زوجته التي لم يطلقها .

وقال مالك والشافعي وسائر من سميناه من الفقهاء في هذا الباب : لا يحل لواحد من الشاهدين أن يتزوجها إذا علم أن زوجها لم يطلقها وأنه كاذب أو غالط في شهادته ، وهذا هو الصحيح من القول في هذه المسألة ، وبالله التوفيق .

[ ص: 222 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا الربيع بن نافع ، حدثنا ابن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أم سلمة قالت : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان يختصمان في مواريث لهما ، فلم تكن لهما بينة إلا دعواهما ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار . فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما لصاحبه : حقي لك ، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما إذ فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحللا .

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه مع الأحكام التي قدمنا في حديث مالك الصلح على الإنكار خلاف قول الشافعي ، وفيه أن للشريكين أن يقتسما من غير حكم حاكم ، وأن الهبة تصح ، ولا يحتاج إلى قبض في الوقت لقوله : حقي لك ، ولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصح لك حتى تقبضه ، ومن هاهنا قال مالك : تصح المطالبة بالهبة قبل القبض لتقبض .

وفيه جواز البراءة من المجهول والصلح منه وهبته .

وفيه جواز الاجتهاد للحاكم فيما لم يكن فيه نص .

وفيه جواز التحري في أداء المظالم .

وفيه استعمال القرعة عند استواء الحق .

وفيه جواز ترديد الخصوم حتى يصطلحوا ، وقد جاء ذلك عن عمر - رحمه الله - ، وذلك فيما أشكل لا فيما بان ، والله المستعان .




الخدمات العلمية