الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1413 [ ص: 139 ] حديث ثان لابن شهاب ، عن سليمان بن يسار

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص بينه وبين يهود خيبر ، قال : فجمعوا له حليا من حلي نسائهم ، فقالوا : هذا لك وتجاوز في القسم . فقال عبد الله بن رواحة : يا معشر اليهود ، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي ، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم ، فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت ، وإنا لا نأكلها ، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض .

التالي السابق


هذا الحديث مرسل في جميع الموطآت عن مالك بهذا الإسناد ، وقد تقدم القول في معناه مستوعبا في باب حديث ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادة القول في ذلك ، وقد يستند معنى هذا الحديث من رواية ابن عباس وجابر وغيرهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماع سليمان بن يسار من ابن عباس صحيح ، وقال معمر عن الزهري في هذا الحديث : خمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر ، ولم يكن له ولا لأصحابه عمال يعملونها ويزرعونها ، فدعا يهود خيبر - وقد كانوا أخرجوا منها - فدفع إليهم خيبر على أن يعملوها على النصف ، يؤدونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم : أقركم على ذلك ما أقركم الله فكان يبعث إليهم عبد الله بن [ ص: 140 ] رواحة فيخرص النخل حين يطيب أوله ، ثم يخير يهود يأخذونها بذلك أو يدفعونها بذلك الخرص ، وإنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالخرص في ذلك لكي تحصى الزكاة في ذلك قبل أن تؤكل الثمرة .

وفيه من الفقه : إثبات خبر الواحد ، ألا ترى أن عبد الله بن رواحة قدم على أهل خيبر وهو واحد ، فأخبرهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم كبير في الشريعة ، فلم يقولوا له : إنك واحد لا نصدقك على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . ولو كان خبره واحدا لا يجب به الحكم ، ما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده .

وفيه : أن المؤمن وإن أبغض في الله ، لا يحمله بغضه على ظلم من أبغضه ، والظالم نفسه يظلم ، قال - صلى الله عليه وسلم - : الظلم ظلمات يوم القيامة .

وفيه دليل على أن كل ما أخذه الحاكم والشاهد على الحكم بالحق أو الشهادة بالحق سحت ، وكل رشوة سحت وكل سحت حرام ، ولا يحل لمسلم أكله . وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين . وقال جماعة أهل [ ص: 141 ] التفسير في قول الله عز وجل : أكالون للسحت قالوا : السحت : الرشوة في الحكم . والسحت كل ما لا يحل كسبه .

وفي هذا الحديث دليل على أن السحت - وهو الرشوة عند اليهود - حرام ولا يحل ، ألا ترى إلى قولهم : بهذا قامت السماوات والأرض ، ولولا أن السحت محرم عليهم في كتابهم ما عيرهم الله في القرآن بأكله ، فالسحت محرم عند جميع أهل الكتاب ، أعاذنا الله منه برحمته ، آمين .

أنشدنا غير واحد لمنصور الفقيه ، رحمه الله :


إذا رشوة من باب بيت تقمحت لتدخل فيه والأمانة فيه سعت هربا منها وولت كأنها
حليم تنحى عن جوار سفيه

حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا أبو عبد الله مالك بن عيسى بن نصر القفصي الحافظ بقفصة وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قالا : حدثنا علي بن سهل الرملي ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن جعفر بن برقان .

[ ص: 142 ] وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا المعافى بن عمران ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، عن مقسم بن أبي القاسم ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر واشترط عليهم أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء - يعني الذهب والفضة - فقال له أهل خيبر : نحن أعلم بالأرض فأعطناها على أن نعمل ولنا نصف الثمرة ولكم النصف ، فزعم أنه أعطاهم على ذلك ، فلما كان حين تصرم النخل ، بعث إليهم عبد الله بن رواحة فحزر النخل وهو الذي يدعوه أهل المدينة الخرص ، فقال : هي كذا وكذا ، فقالوا : أكثرت علينا ، وفي حديث المعافى فقال : في ذا كذا وكذا . فقالوا : أكثرت يا ابن رواحة ، قال : فأنا أعطيكم النصف الذي قلت ، قالوا : هذا الحق ، وبه قامت السماوات والأرض ، وقد رضينا أن نأخذه بالذي قلت . وفي حديث زيد بن أبي الزرقاء : أكثرت علينا يا ابن رواحة ، قال : فأنا ألي جذاذ النخل ، وأعطيكم نصف الذي قلت ، قالوا : هذا الحق وبه قامت السماوات والأرض ، وقد رضينا أن نأخذه بالذي قلت . قد تقدم في باب ربيعة من [ ص: 143 ] القول في ذكر الأرض . وفي باب ابن شهاب من معاني الخرص ومعاني أرض خيبر ما فيه إشراف على معاني ذلك كله والحمد لله . وقال أبو بكر الأصم عبد الرحمن بن كيسان : كان أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر على النصف مما تخرج أرضها وثمرها خصوصا له - صلى الله عليه وسلم - لأن اليهود كانوا له كالعبيد ، وللسيد أن يأخذ مال عبده كيف شاء ويبيع منه الدرهم بالدرهمين ، فرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دفع الأرض لتلك العلة ، ولا يجوز ذلك لغيره ، لما ثبت من تنبيه عن مثل ذلك في كراء الأرض ، وفي بيع الثمار قبل بدو صلاحها .

ولما أجمعوا عليه أن المجهول لا يكون بمثل لشيء ولا يجوز بيعه ، وقرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ ، قال : حدثنا محمد بن سابق ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير ، عن جابر أنه قال : أفاء الله خيبر على رسوله فأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وجعلها بينه وبينهم ، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم ، ثم قال : يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي ، قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله ، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم ، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر ، فإن شئتم فلكم وإن شئتم فلي ، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض قد أخذنا فاخرجوا عنا . فقال أبو الزبير : إن عمر بن الخطاب إنما أخرجهم منها بعد ذلك ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقروا في جزيرة العرب من ليس منا . أو قال : من ليس من المسلمين .




الخدمات العلمية