الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5028 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن ; فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا " . وفي رواية : " ولا تنافسوا " . متفق عليه .

التالي السابق


5028 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إياكم والظن ) أي : احذروا اتباع الظن في أمر الدين الذي مبناه على اليقين قال تعالى : وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا قال القاضي : التحذير عن الظن فيما يجب فيه القطع أو التحدث به عند الاستغناء عنه أو عما يظن كذبه اهـ . أو اجتنبوا الظن في التحديث والإخبار ، ويؤيده قوله : ( فإن الظن ) : في موضع الظاهر زيادة تمكين في ذهن السامع حثا على الاجتناب ( أكذب الحديث ) : ويقويه حديث : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " وقيل أي أكذب حديث النفس ؛ لأنه يكون بإلقاء الشيطان أو اتقوا سوء الظن بالمسلمين قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن وهو ما يستقر عليه صاحبه دون ما يخطر بقلبه أن بعض الظن - وهو أن يظن ويتكلم - إثم ، فلا تجسسوا ، وهو الملائم لقوله : ( ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ) : بحاء مهملة في الأول وبالجيم في الثاني فقال ابن الملك : أي لا تطلبوا التطلع على خير أحد ولا على شره ، وكلاهما منهي عنه لأنه لو اطلعت على خير أحد ربما يحصل لك حسد بأن لا يكون ذلك الخير فيك ، ولو اطلعت على شره تعيبه وتفضحه ، وقد ورد : طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس . وفي شرح مسلم للنووي قال بعض العلماء : التحسس بالحاء الاستماع لحديث القوم عن بواطن الأمور ، وأكثر ما يقال في الشر . وقيل بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور . وقيل : هما بمعنى وهو طلب معرفة الأخبار الغائبة والأحوال .

[ ص: 3148 ] قلت : هذا أقرب الأقوال ، لكن الأنسب أن يقيد بالأخبار التي تقضي إلى سوء الظن ، كما يفيده الآية الشريفة ، وقد قرئ فيها بالحرفين ، لكن الحاء شاذ .

قال البيضاوي : أي لا تبحثوا على عورات المسلمين . تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس ، وقرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ، ولذلك قيل للحواس الجواس اهـ . وقيل بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور بتلطف ومنه الجاسوس ، وبالحاء تطلب الشيء بالحاسة كاستراق السمع ، وإبصار الشيء خفية . وقيل : الأول التفحص عن عورات الناس وبواطن أمورهم بنفسه أو غيره ، والثاني بنفسه ، وقيل الأول مخصوص بالشر والثاني أعم . ( ولا تناجشوا ) : من النجش بالجيم والمعجمة . قيل المراد به طلب الترفع والعلو على الناس وهو المناسب لسابقه ولاحقه . وقيل : أن يغري بعض بعضا على الشر والخصومة ، وهو من نتائج التجسس . وقيل : هو الزيادة في الثمن بغير رغبة في السلعة ، بل ليخدع المشتري بالترغيب من النجش رفع الثمن ، وهذا المعنى هو المشهور عند الفقهاء ، وقيل : من النجش معنى التنفير أي لا ينفر بعضكم بعضا بأن يسمعه كلاما أو يعمل شيئا يكون سبب نفرته ( ولا تحاسدوا ) أي : لا يتمنى بعضكم زوال نعمة بعض سواء أرادها لنفسه أو لا . قال تعالى : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض إلى أن قال : " واسألوا الله من فضله " أي مثل تلك النعمة أو أمثل منها ، وهذا الحسد المحمود المسمى بالغبطة ، كما تقدم في حديث " لا حسد إلا في اثنتين " الحديث . ( ولا تباغضوا ) أي : لا تختلفوا في الأهواء والمذاهب ; لأن البدعة في الدين والضلال عن الطريق المستقيم يوجب البغض كذا قيل ، والأظهر أن النهي عن التباغض تأكيد للأمر بالتحابب مطلقا إلا ما يختل به الدين ، فإنه لا يجوز حينئذ التحابب ، ويجوز التباغض لأن غرض الشارع اجتماع كلمة الأمة لقوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ولا شك أن التحابب سبب الاجتماع والتباغض موجب الافتراق ، فالمعنى لا يبغض بعضكم بعضا .

وقال بعض المحققين : أي لا تشتغلوا بأسباب العداوة إذ العداوة والمحبة مما لا اختيار فيه ، فإن البغض من نفار النفس عما ما يرغب عنه ، وأوله الكراهة ، وأوسطه النفرة ، وآخره العداوة ، كما أن الحب من انجذاب النفس إلى ما يرغب فيه ، ومبدؤه الميل ، ثم الإرادة ، ثم المودة وهما من غرائز الطبع والله أعلم . وقيل : لا توقعوا العداوة بين المسلمين ، فيكون نهيا عن النميمة لما فيه من تأسيس الفساد ، وهذا إذا لم يكن لمصلحة ، فإذا دعت كما لو أخبر أن إنسانا يريد الفتك به ، أو بأهله أو بماله ، فلا منع ، بل قد يكون واجبا . ( ولا تدابروا ) : بحذف إحدى التاءين فيه ، وفيما قبله من الأفعال الخمسة ، ويجوز تشديد التاء وصلا كما قرأ به البزي راوي ابن كثير من نحو : لا تيمموا أي : لا تقاطعوا ، ولا تولوا ظهوركم عن إخوانكم ، ولا تعرضوا عنهم مأخوذ من الدبر ، لأن كلا من المتقاطعين يولي دبره صاحبه وقيل معناه لا تغتابوا . ( وكونوا عباد الله إخوانا ) : خبر آخر أو بدل ، أو هو الخبر وعباد الله منصوب على الاختصاص بالنداء .

قال الطيبي : وهذا الوجه أوقع . قلت : بل وقوعه خبرا واقعا تحت الأمر أوجه ، لكون هذا الوجه مشعرا بالعلية من حيث العبودية ، ويؤيده أن في رواية ضبط عباد بالنصب ولله باللام الأجلية ، والمعنى أنتم مستوون في كونكم عبيد الله وملتكم واحدة ، والتحاسد والتباغض والتقاطع منافية لحالكم ، فالواجب أن تعاملوا معاملة الأخوة والمعاشرة في المودة والمعاونة على البر والنصيحة بكل حسنة . قيل : الأخ النسبي يجمع على الإخوة . قال تعالى : فإن كان له إخوة والمجازي على الأخوان قال تعالى : إخوانا على سرر متقابلين . فقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة للمبالغة والمفهوم من القاموس عدم الفرق بينهما والله أعلم .

[ ص: 3149 ] ( وفي رواية : ولا تنافسوا ) : ظاهره أن محله بعد الكل ، ويحتمل أن يكون بدلا عن إحدى صيغ النهي ، ويمكن أن يكون بعد لا تحاسدوا وهو الأظهر ، ولذا قال الشراح : التنافس والتحاسد في المعنى واحد ، وإن اختلفا في الأصل . قلت : لكن التنافس يفيد المبالغة التي قد تفضي إلى المنازعة ، فالمعنى لا تحاسدوا ولا تنازعوا في الأمور الخسيسة الدينية والدنيوية ، بل ينبغي أن يكون تنافسكم في الأشياء النفسية المرضية الأخروية ، كما قال تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وما أنفس نفس الشاطبي حيث يذكر مضمون هذا الكلام الحديث بقوله :


عليك بها ما عشت فيها منافسا وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلى

.

( متفق عليه ) : وزاد في الجامع الصغير قوله : ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك . وقال : رواه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عنه .




الخدمات العلمية