الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5127 - وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتدرون ما المفلس ؟ " . قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار " . رواه مسلم .

التالي السابق


5127 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أتدرون ) أي : ( أتعلمون ما المفلس ؟ ) كذا في صحيح مسلم وجامع الترمذي وكتاب الحميدي وجامع الأصول وشرح السنة ، فعلى هذا السؤال عن وصف المفلس لا عن حقيقته ، ومن ثم أجاب صلى الله عليه وسلم بوصفه في قوله : شتم وأكل وقذف ، وفي مشارق الأنوار في بعض نسخ المصابيح في المفلس ، وهذا سؤال إرشاد لا استعلام ، ولذلك قال : إن المفلس كذا وكذا . قلت : الظاهر أن المراد بقوله ما المفلس من المفلس ، بدليل ما بعده في جواب الصحابة ، وفي كلامه - صلى الله عليه وسلم - أيضا من التعبير بمن ( قالوا ) أي : بعض أصحابه ( المفلس فينا ) أي : فيما بيننا ( من لا درهم ) أي : من نقد ( له ) : [ ص: 3202 ] أي : ملكا ( ولا متاع ) أي : مما يحصل به النقد ويتمتع به من الأقمشة والعقاد والجواهر والمواشي والعبيد وأمثال ذلك ، والحاصل أنهم أجابوا بما عندهم من العلم بحسب عرف أهل الدنيا كما يدل عليه قولهم فينا وغفلوا عن أمر الآخرة كان حقهم أن يقولوا : الله ورسوله أعلم لأن المعنى الذي ذكروه كان واضحا عنده - صلى الله عليه وسلم - فلما أجابوه بما أجابوه . ( فقال : إن المفلس ) أي : الحقيقي أو المفلس في الآخرة ( من أمتي ) أي : كل : أمة الإجابة ولو كان غنيا في الدنيا بالدرهم والمتاع ( من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ) أي : مقبولات والباء للتعدية أي : مصحوبا بها ( ويأتي ) أي : ويحضر أيضا حال كونه ( قد شتم هذا ) أي : وقع له شتم لأحد ( وقذف هذا ) أي : بالزنا ونحوه ( وأكل مال هذا ) أي : بالباطل ( وسفك ) أي : أراق ( دم هذا ) أي : بغير حق ( وضرب هذا ) أي : من غير استحقاق أو زيادة على ما يستحقه ، والمعنى من جمع بين تلك العبادات وهذه السيئات ، ولا يبعد أن تكون الواو بمعنى " أو " ولكن لفظ المفلس يلائم كثرة المعاصي الموجبة لإفلاسه والله أعلم . ( فيعطى ) : بصيغة المجهول ( هذا ) أي : المظلوم ( من حسناته ) أي : بعض حسنات الظالم ( وهذا ) أي : ويعطي المظلوم الآخر ( من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ) : بصيغة المفعول أي : يؤدي ( ما عليه ) أي : من الحقوق ( أخذ من خطاياهم ) أي : من سيئات أصحاب الحقوق ( فطرحت عليه ) : أو وضعت على الظالم ( ثم طرح ) أي : ألقي ورمي ( في النار ) : وفيه إشعار بأنه لا عفو ولا شفاعة في حقوق العباد إلا أن يشاء الله يرضى خصمه بما أراد . قال النووي : يعني حقيقة المفلس هذا الذي ذكرت ، وأما من ليس له مال ومن قل ماله ، فالناس يسمونه مفلسا ، وليس هذا حقيقة المفلس ، لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته وربما انقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته بخلاف ذلك المفلس ، فإنه يهلك من الهلاك التام . قال المازري : زعم بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارض لقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وهو باطل وجهالة بينة لأنه إنما عوقب بفعله ووزره ، فتوجهت عليه حقوق لغرمائه ، فدفعت إليهم من حسناته ، فلما فرغت حسناته أخذ من سيئات خصومه ، فوضعت عليه ، فحقيقة العقوبة مسببة عن ظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه .

قلت : وهذا من ضرورة قضية العدل الثابت له تعالى بالنقل والعقل ، فإن الظالم إذا أكثر من الحسنات وثقلت موازينه منها وغلبت على سيئاته ، فإن أدخل الجنة يبقى حق المظلوم ضائعا ، وإن أدخل النار ينافي قوله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون وسيأتي أن حقوق العباد مما لا يترك الله تعالى ، فلا بد من أن الأمرين إما أخذ الحسنات وإما وضع السيئات حتى يتحقق خفة ميزان عمله ، فيدخل النار فيعذب بقدر استحقاقه ، ثم يخرج ويدخل الجنة بسبب الحسنات الباقية إن كانت هناك ، وإلا ببركة الإيمان ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وهذا من البراهين الواضحة المؤيدة بالشواهد والأدلة اللائحة . ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية