الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 135 ] [ 2 ] باب في الوسوسة

الفصل الأول

63 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ، ما لم تعمل به ، أو تتكلم " متفق عليه .

التالي السابق


[ 2 ] باب في الوسوسة

الخواطر إن كانت تدعو إلى الرذائل فهي وسوسة ، وإن كانت إلى الفضائل فهي إلهام ، والأصح أنه ليس بحجة من غير المعصوم ؛ لأنه لا ثقة بخواطره .

الفصل الأول

63 - ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تجاوز ) أي : عفا ( عن أمتي ) أي : أمة الإجابة ، وفي رواية : تجاوز لي عن أمتي ، أي : لم يؤاخذهم بذلك لأجلي فله المنة العظمى التي لا منتهى لها علينا ( ما وسوست به صدورها ) : بالرفع فاعلا أي : ما خطر في قلوبهم من الخواطر الرديئة ، فهو من مجاز المحاورة ، ويجوز نصبه مفعولا به . قيل : فيه نظر ؛ لأن الوسوسة لازم ، لنعم وجه النصب الظرفية إن ساعدته الرواية ، وروي ما حدثت به أنفسها بالرفع ، والنصب بدله ( ما لم تعمل به ) أي : ما دام لم يتعلق به العمل إن كان فعليا ( أو تكلم ) : به أي : ما لم تتكلم به إن كان قوليا كذا في الأزهار ، قال صاحب الروضة في شرح صحيح البخاري : المذهب الصحيح المختار الذي عليه الجمهور أن أفعال القلوب إذا استقرت يؤاخذ بها فقوله - صلى الله عليه وسلم - : فإن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ) محمول على ما إذا لم تستقر ، وذلك معفو بلا شك ؛ لأنه لا يمكن الانفكاك عنه بخلاف الاستقرار ، ثم نقل صاحب الأزهار عن الإحياء ما حاصله : أن لأعمال القلب أربع مراتب . الأول : الخاطر كما لو خطر له صورة امرأة مثلا خلف ظهره في الطريق لو التفت إليها يراها . والثاني : هيجان الرغبة إلى الالتفات إليها ، ونسميه ميل الطبع ، والأول حديث النفس ، والثالث : حكم القلب بأن يفعل أي : ينظر إليها فإن الطبع إذا مال لم تندفع الهمة ، والنية ، ما لم تندفع الصوارف ، وهي الحياء ، والخوف من الله تعالى ، أو من عباده ، ونسميه اعتقادا . والرابع : تصميم العزم على الالتفات ، وجزم النية فيه ، ونسميه عزما بالقلب ، أما الخاطر فلا يؤاخذ به ، وكذا الميل ، وهيجان الرغبة ؛ لأنهما لا يدخلان تحت الاختيار ، وهما المرادان بقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إن الله تجاوز عن أمتي ) الحديث . وأما الثالث ، وهو الاعتقاد : فهو مردد بين أن يكون اختيارا لا ينكره ، واضطرارا ينكره ، فالاختياري يؤاخذ ، والاضطراري لا يؤاخذ ، وأما الرابع وهو العزم ، والهم بالفعل ، فإنه يؤاخذ به ، وعليه تنزل الآيات التي دلت على مؤاخذة أعمال القلوب إلا أنه إن ترك خوفا من الله تعالى كتبت له حسنة ؛ لأن همه سيئة ، وامتناعه عنها مجاهدة مع نفسه فتكون حسنة تزيد عليها ، وإن تركها لعائق ، أو فاتها ذلك لعدم الحصول كتبت عليه سيئة للعزم ، والهمة الجازمة ، والدليل القاطع على ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المتفق على صحته : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل ، والمقتول في النار ) قيل : يا رسول الله فما بال المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) . وهذا صريح في أنه صار إلى النار ، ووقع فيها بمجرد العزم ، والنية ، وإن مات ولم يعمل وقتل مظلوما ، وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلب الجازمة ، والكبر ، والعجب ، والنفاق ، والحسد ، وغيرها من الأوصاف الذميمة يؤاخذ بها . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإثم ما حاك في الصدر ) . وقال : " البر ما اطمئن إليه القلب ، واطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في نفسك ، وتردد في صدرك ، وإن أفتاك الناس ) ا هـ .

أقول : الاستدلال بالحديث الأخير فيه نظر ؛ لأنه جعل الإثم عين ما تردد في الصدر ، وتقدم أن ما لم يستقر لا يكون إثما ، فمعنى الحديث أن ما تردد في الصدر أنه إثم ، أو غير إثم ففعله إثم احتياطا ، كما إذا تعارض دليل التحريم ، والتحليل في شيء فيحرم . قيل : الحديث يدل على أن التجاوز المذكور خاصية هذه الأمة ، وعلى التوجيه الذي نقله صاحب الأزهار من الروضة ، والإحياء يلزم أنه يكون عاما لجميع الأمم ؛ لأن ما لا يدخل تحت الاختيار لا يؤاخذ به شخص من الأشخاص لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) فالصواب ما قاله الطيبي من أن [ ص: 136 ] الوسوسة ضرورية ، واختيارية ، فالضرورية : ما يجري في الصدور من الخواطر ابتداء ، ولا يقدر الإنسان على دفعه ، فهو معفو عن جميع الأمم ، والاختيارية : هي التي تجري في القلب ، وتستمر ، وهو يقصد ، ويعمل به ، ويتلذذ منه كما يجري في قلبه حب امرأة ، ويدوم عليه ، ويقصد الوصول إليها ، وما أشبه ذلك من المعاصي ، فهذا النوع عفا الله عن هذه الأمة خاصة تعظيما ، وتكريما لنبينا - عليه الصلاة والسلام - ، وأمته ، وإليه ينظر قوله تعالى : ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) وأما العقائد الفاسدة ، ومساوئ الأخلاق ، وما ينضم إلى ذلك فإنها بمعزل عن الدخول في جملة ما وسوست به الصدور ا هـ .

وهو كلام حسن . ولهذا قيده النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( ما لم تعمل ، أو تتكلم ) إشارة إلى أن وسوسة الأعمال ، والأقوال معفوة قبل ارتكابها ، وأما الوسوسة التي لا تعلق لها بالعمل ، والكلام من الأخلاق ، والعقائد فهي ذنوب بالاستقرار ، وذكر الإمام النووي أن مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية ، ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده ، وعزمه ، ويحمل ما وقع في أمثال قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوا عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة ) الحديث . فيمن لم يوطن نفسه على المعصية ، وإنما مر ذلك بفكر من غير استقرار ، ويسمى هذا هما ، ويفرق بين الهم والعزم ، وهذا مذهب القاضي أبي بكر ، وخالفه كثير من الفقهاء ، والمحدثين ، وأخذوا بظاهر الحديث . وقال القاضي عياض : عامة السلف ، وأهل العلم من الفقهاء ، والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب ، لكنهم قالوا : إن هذا العزم يكتب سيئة ، وليست السيئة التي هم بها لكونها لم يعملها ، وقطع عنها قاطع غير خوف الله تعالى ، والإنابة ، لكن الإصرار ، والعزم معصية ، فصار تركه لخوف الله تعالى ، ومجاهدته نفسه الأمارة حسنة ، فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا يوطن النفس عليها ، ولا يصحبها عقد ، ولا نية ، وعزم ، وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى ، بل لخوف الناس هل تكتب حسنة ؟ قال : لا ، لأنه إنما حمله على تركها الحياء ، وهذا الخلاف ضعيف لا وجه له . هذا آخر كلام القاضي ، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه ، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر من ذلك قوله تعالى : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ) وقوله : ( اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ) والآيات في هذا كثيرة . وقد تظاهرت نصوص الشرع ، وإجماع العلماء على تحريم الحسد ، واحتقار المسلمين ، وإرادة المكروه بهم ، وغير ذلك من أعمال القلوب ، وعزمها ، وقد تقدم الفرق بين ما له تعلق بالعمل ، وبين ما ليس له تعلق به ، والله تعالى أعلم . وقيل : يؤاخذ بالهم بالمعصية في حرم مكة دون غيرها ، وهو رواية عن أحمد ، وبه قال ابن مسعود لقوله تعالى : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) الآية . ويرد بأن الإرادة هي القصد ، وهو العزم الذي هو أخص من الهم . ( متفق عليه ) : في الجامع الصغير : رواه الجماعة عن أبي هريرة بلفظ : ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم ، أو تعمل به ) .




الخدمات العلمية