الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( 10 ) باب صفة الصلاة .

الفصل الأول

790 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في ناحية المسجد ، فصلى ، ثم جاء فسلم عليه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وعليك السلام ، ارجع فصل ، فإنك لم تصل " فرجع فصلى ، ثم جاء ، فسلم ، فقال : " وعليك السلام ، ارجع فصل ، فإنك لم تصل " ، فقال في الثالثة - أو في التي بعدها - : علمني يا رسول الله فقال : " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا وفي رواية : " ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " . متفق عليه .

التالي السابق


( 10 ) باب صفة الصلاة .

المراد بها جنس صفتها الشاملة للأركان والفرائض والواجبات والسنن والمستحبات قال ابن الهمام : قيل الصفة والوصف في اللغة واحد ، وفي عرف المتكلمين بخلافه ، والتحرير ، الوصف ذكر ما في الموصوف من الصفة ، والصفة هي ما فيه ، ثم المراد هنا بصفة الصلاة الأوصاف النفسية لها ، وهي الأجزاء الفعلية الصادقة على الخارجية التي هي أجزاء الهوية من القيام الجزئي والركوع والسجود .

[ ص: 650 ] 790 - ( عن أبي هريرة أن رجلا ) : قال ميرك : هذا الرجل هو خلاد بن رافع ، كما بينه ابن أبي شيبة ، وقال الأبهري : هو علي بن يحيى راوي الخبر قاله الشيخ ، قال ابن حجر العسقلاني : هو خلاد بن رافع الأنصاري ، وجاء أنه استشهد ببدر ، فعليه تكون القصة قبلها ، ولا تشكل عليه رواية أبي هريرة للقضية مع أنه إنما أسلم سنة سبع ، ووقعة بدر كانت في الثانية ; لأنه يحتمل أن أبا هريرة رواها عن بعض الصحابة الذين شاهدوها ، وما قيل إن المسيء صلاته رفاعة أخو خالد فهو اشتباه ، وإنما هو بدري أيضا فمردود ، بأنه هو راويها عن أخيه خالد لا عن نفسه ، كما سيأتي في الفصل الثاني ، ( دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في ناحية المسجد ) : وفي المصابيح : جالس في المسجد ، أي : في جانب منه ، قاله ابن الملك ، ( فصلى ) : وفي رواية النسائي : فصلى ركعتين ، والظاهر أنها تحية المسجد ( ثم جاء فسلم عليه ) : مقدما حق الله على حق رسوله - عليه السلام - ، كما هو أدب الزيارة ، لأمره - عليه السلام - بذلك لمن سلم عليه قبل صلاة التحية فقال له : ( " ارجع فصل ثم ائت فسلم علي " ( فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وعليك السلام " ) : قيل : عليك بلا واو يدل على أن ما قاله بعينه مردود إليه خاصة ، أي : ويحتمل غيره ، وإذا أثبت الواو ومع الاشتراك معه والدخول فيما قاله ; لأن الواو لجمع الشيئين ، ( " ارجع فصل ، فإنك لم تصل " ) ، أي : صلاة كاملة أو صحيحة ( فرجع فصلى ، ثم جاء فسلم ) ، أي : عليه كما في نسخة ، وفيه استحباب تكراره السلام بالفصل ، أو لأن السلام المعتبر هو الذي يكون بعد الصلاة الكاملة أو الصحيحة ( قال " وعليك السلام ارجع فصل ، فإنك لم تصل ) : قال ابن الملك النفي في قوله : لم تصل نفي لكمال الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد ، ونفي لجوازها عند أبي يوسف .

قلت : وكذلك عند الشافعي ، لكن تقريره على صلاته كرات يؤيد كونه نفي الكمال لا الصحة ، فإنه يلزم منه أيضا الأمر بعبادة فاسدة مرات ( فقال في الثالثة : - أو في التي بعدها - ) : أي في المرة الرابعة ( علمني يا رسول الله ) : قال ابن الملك في شرح المشارق ، فإن قيل : لم سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تعليمه أولا حتى افتقر إلى المراجعة كرة بعد أخرى ؟ قلنا : لأن الرجل لما لم يستكشف الحال مغترا بما عنده سكت عن تعليمه زجرا له ، وإرشادا إلى أنه ينبغي أن يستكشف ما استبهم عليه ، فلما طلب كشف الحال بينه بحسن المقال اهـ .

واستشكل تقريره - عليه السلام - على صلاته ، وهي فاسدة ثلاث مرات على القول بأن النفي للصحة ، وأجيب : بأنه أراد استدراجه بفعل ما جعله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسيا أو غافلا ، فيتذكر فيفعل من غير تعليم ، فليس من باب التقرير على الخطأ ، بل من باب تحقق الخطأ ، أو بأنه لم يعلمه أولا ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره ولتفخيم الأمر وتعظيمه عليه ، وقال ابن دقيق العيد : لا شك في زيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله ، واستجماع نفسه ، وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم ، لاسيما مع عدم خوف ، ( فقال : " إذا قمت " ) ، أي : أردت القيام ( " إلى الصلاة فأسبغ الوضوء " ) : بضم الواو وبفتح ، قال الطيبي ، أي : أتممه يعني توضأ وضوءا تاما ، وقال ابن الملك : مشتملا على فرائضه وسننه ( " ثم استقبل القبلة " ) : فإنه من شروط الصلاة ، وفيه إيماء إلى أن الجهة كافية ، ويؤيده أنه - عليه السلام - قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " وما أبعد قول ابن حجر ، أي : عين الكعبة لما مر أنه - عليه السلام - ركع ركعتين في وجهها وقال : هذه القبلة اهـ .

[ ص: 651 ] ولعل ترك سائر الشروط من طهارة الثوب والمكان ، وستر العورة اكتفاء بالشهرة ( " فكبر " ) ، أي : تكبيرة الافتتاح ، وهي شرط عندنا لقوله تعالى : وذكر اسم ربه فصلى ، وركن عند الشافعي ، وترك ذكر النية مع أنها من الشروط لوضوحها ولعدم خصوصيتها بالصلاة ، قال ابن حجر : كان حكمة الفاء هاهنا دون ما قبلها وما بعدها أن التكبير يعقب الاستقبال غالبا بخلافه مع الوضوء ، وبخلاف التكبير وقراءة الفاتحة لما بينهما من الافتتاح والتعوذ .

قلت : ولعل فيه إيماء إلى قوله تعالى : وربك فكبر فيتضمن الإشارة إلى المفعول المقدر ، والتكبير معناه التعظيم ، فيجوز بلفظ : الله أكبر ، وبكل ما دل على تعظيمه تعالى لقوله تعالى : وذكر اسم ربه فصلى وحديث تحريمها التكبير ، وقوله - عليه السلام - في أوائل صلاته " الله أكبر " مع المواظبة عليه يدل على كونه واجبا لا على كونه ركنا خلافا للشافعي ومن تبعه ، ويحترز من مد همزة الجلالة ، ومن إشباع باء أكبر ، فإنه يكفر متعمد ذلك .

قال ابن حجر : وخبر التكبير جزم لم يصح اهـ ، ومحله غير هذا المقام لأنه حالة الوقف لا يكون إلا مجزوما ، وقد تقدم ما يعلق بمعنى أكبر ، والجمهور على أنه لا يجب مقارنة النية للتكبير خلافا للشافعي ، وبحث النية والتلفظ بها قد مر مستوعبا في أول الكتاب ، ( " ثم اقرأ بما تيسر " ) ، أي : لك حال كونه ( " معك " ) : قال ابن الملك : أي ما تعلمه ، وقال الأبهري : الباء للاستعانة ، أي : أوجد القراءة مستعينا بما تيسر أو زائدة ، ويؤيد الثاني رواية البخاري ما تيسر بدون الباء ، وقال الطيبي : الجار والمجرور حال ، أتي بالباء في التنزيل دلالة على أن " اقرأ " يراد به الإطلاق ، أي : أوجد القراءة باستعانة ما تيسر لك ( " من القرآن " ) ، وفي الحديث كما في آية : فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، دليل على أن قراءة الفاتحة ليست بركن ، وما دون الآية غير مراد إجماعا فتبقى الآية وبه أخذ أبو حنيفة ، وفي شرح السنة : أراد بما تيسر معك من الفاتحة إذا كان يحسنها ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى : فما استيسر من الهدي والمراد الشاة ببيان السنة ، وفيه دليل على وجوب القراءة في الركعات كلها كما يجب الركوع والسجود ذكره الطيبي ، وفيه أبحاث محلها كتب الفقه وأصوله ، ومن جملتها أنه - عليه السلام - صرح بأن المراد بالهدي الشاة ، ولم يرد عنه أنه قال : المراد بما تيسر هو الفاتحة ، ومن ادعى فعليه البيان ، وأما ما ورد في رواية صححها أحمد ، والبيهقي ، وابن حبان من قوله - عليه السلام - : " ثم اقرأ بأم القرآن " إنما يدل على الوجوب ، وبه نقول مع أن الواقعة لم تتكرر كما هو الظاهر ، فتحمل إحداهما على أنها رويت باللفظ ، والأخرى على أنها رويت بالمعنى ولكن فيه أن ما بينهما تفاوت فاحش في المعنى ، ففي تصحيح الرواية نظر ظاهر والله أعلم .

ثم القراءة ليست بفرض مطلقا عند أبي بكر الأصم ، وعندنا فرض في ركعتين لا على التعيين ، وأما تعيين الأوليين فبطريق الوجوب وعند بعض العلماء القراءة فرض في كل ركعة وعند بعض في ثلاث ركعات ، ( " ثم اركع " ) : الركوع والسجود فرضان بالإجماع ، والاطمئنان فيهما فرض عند الشافعي ، وأبي يوسف ، وسنة عند أبي حنيفة ، ومحمد ، وفي رواية صحيحة : واجب عندهما ( " حتى تطمئن راكعا " ) : حال مؤكدة قاله ابن حجر : والظاهر أنها مقيدة ، نعم التأكيد ظاهر في قول : ( " ثم ارفع " ) ، أي : رأسك ( حتى تستوي قائما ) : القومة والجلسة بين السجدتين واجبتان عندهما ، وفرضان عند الشافعي ، وقال إمام الحرمين من الشافعية مع جلالته : أنه [ ص: 652 ] عليه السلام لم يذكر الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين وفيه أن الاطمئنان في الجلوس بين السجدتين مذكور في هذا الحديث المتفق عليه ، وأما قول ابن حجر : إن هذا سهو منه إذ في قوله : " حتى تستوي قائما " التصريح بوجوب القيام من الركوع مع الاستواء فيه ، وهذا هو الاعتدال والطمأنينة اللذان قلنا بوجوبهما ، فمبني على أنه لم يفرق بين الاعتدال والطمأنينة فتأمل فيهما ، ( " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا " ) : حال مؤسسة ذكره ابن حجر ( " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا " ) ، أي : للاستراحة ، قال الطيبي : كلمة " حتى " في هذه القرائن لغاية ما يتم به الركن ، فدلت على أن الطمأنينة داخلة فيه ، والمنصوب حال مؤكدة ، وقال التوربشتي : من ذهب إلى أن الطمأنينة في الهيئات المذكورة فريضة تمسك بظاهر اللفظ ، ومن قال : إنها سنة فإنه يؤوله بنفي الكمال ، وأن الأمر بالإعادة إنما كان لتركه فرضا من فروضها .

قلت : قال ابن الهمام : بترك الفرض تفرض الإعادة ، وبترك الواجب تجب وبترك السنة تستحب ، ثم قال التوربشتي : فلما قال : " علمني " وصف له كيفية إقامة الصلاة على نعت الكمال ، ولذلك بدأ في تعليمه بالأمر في إسباغ الوضوء ، ولم يأمر بالإعادة ، ولو لم يكن على طهر لقال : ارجع فتوضأ .

قال النووي : هذا الحديث محمول على بيان الواجبات دون السنن ، فإن قيل : لم يذكر فيه كل الواجبات من المجمع عليها كالنية والقعود في التشهد الأخير ، وترتيب أركان الصلاة ، والمختلف فيه كالتشهد الأول ، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فالجواب : أن الواجبات المجمع عليها كانت معلومة عند السائل ، فلم يحتج إلى بيانها ، وكذلك المختلف فيه ، وفيه دليل على وجوب الاعتدال عن الركوع والسجود ، ووجوب الطمأنينة في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين ، وهو مذهب الجمهور ، ولم يوجبها أبو حنيفة وطائفة يسيرة ، هذا الحديث حجة عليهم وليس عنه جواب صحيح .

قلت : أما قوله : كانت الواجبات معلومة عند السائل فغير معلوم ، بل بعيد جدا ; لأن السلف كانوا يعلمون العبادات على وجه الكمال ، وغالبهم لا يفرقون بين الفرائض والواجبات والسنن فرضا عن المجمع عليها ، والمختلف فيها وعلى فرض التسليم يرد عليه أنه . . . فلم ذكر بعض الواجبات المجمع عليه أو ترك بعضها ، مع أن بعض المذكورات أظهر من المحذوفات ، ثم كيف يستقيم قوله : وكذلك المختلف فيه ، ومن جملته وجوب الاعتدال والطمأنينة والجلوس بين السجدتين ، فالصحيح ما ذهب إليه أئمتنا أنه كان تاركا لبعض السنن وأما وجه أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر بعض الشرائط والأركان وترك بعضها ، فمفوض إليه - عليه السلام - ، وأما الجواب الصحيح ، فتقدم عن الإمام التوربشتي مع أنه لو كان التعديل فرضا لما أقره - عليه السلام - إلى آخر الصلاة ، وليس في الحديث تصريح بما تركه ، ولا أنه واجب ، أو سنة ، والله أعلم اهـ .

يعني : فإذا كان - عليه السلام - لم يصرح في هذا الحديث بالسبب الموجب للإعادة فلا حجة فيه لنا ولا علينا ، ( وفي رواية ) ، أي : بدل قوله الأخير ، ثم اسجد حتى تطمئن جالسا ( " ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم افعل ذلك " ) ، أي : ما ذكر مما يمكن تكريره فخرج نحو تكبيرة الإحرام ( " في صلاتك " ) ، أي : ركعاتك ( " كلها " متفق عليه ) : قال ميرك : واللفظ للبخاري .

[ ص: 653 ]



الخدمات العلمية