الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1305 - وعن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " هل تدرين ما هذه الليلة ؟ " يعني ليلة النصف من شعبان ، قالت : ما فيها يا رسول الله ؟ فقال : " فيها أن يكتب كل مولود من بني آدم في هذه السنة ، وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة ، وفيها ترفع أعمالهم ، وفيها تنزل أرزاقهم " ، فقالت : يا رسول الله ! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى ؟ فقال : " ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى ثلاثا . قلت : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! فوضع يده على هامته ، فقال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته " يقولها ثلاث مرات . رواه البيهقي في " الدعوات الكبير " .

التالي السابق


1305 - ( وعن عائشة ، أن النبي ) : وفي نسخة صحيحة منسوبة إلى العفيف : عن النبي ( صلى الله عليه وسلم : " قال هل تدرين ) ، أي : تعلمين ( ما ) ، أي : ما يقع ( في هذه الليلة ) ، أي : من العظمة والقدرة وتقدير الأمر ، وقول ابن حجر : نبه - عليه الصلاة والسلام - بهذا الاستفهام التقريري على عظم خطر هذه الليلة وما يقع فيها ، ليحمل ذلك الأمة بأبلغ وجه ، وآكده على إحيائها بالعبادة والدعاء والفكر والذكر ، كلام مستحسن ، إلا أن حمل الاستفهام على التقرير لم يقع على وجه التحرير ، ولعله لما رأى في كلام الطيبي أنه قال في قول عائشة : ما من أحد إلخ . الاستفهام على سبيل التقرير سبق قلمه وتبع قدمه ، فلم يصب المحرر فمه ، والله أعلم . ( يعني ) ، أي : يريد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الليلة ( ليلة النصف من شعبان ) : والظاهر أن قائل يعني عائشة ( قالت ) : نقل بالمعنى ، وإلا فالظاهر قلت : ( ما فيها ) ، أي : ما يقع فيها ( يا رسول الله ؟ فقال : " فيها أن يكتب ) : يعني كتابة ثانية بعد الكتابة في اللوح المحفوظ [ ص: 974 ] ( كل مولود من بني آدم ) : وتخصيصهم تشريف لهم ( في هذه السنة ) ، أي : الآتية إلى مثل هذه الليلة ( وفيها أن يكتب كل هالك ) ، أي : ميت ( من بني آدم في هذه السنة ) : قال الطيبي : هو من قوله تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) من أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم إلى الأخرى القابلة ( وفيها ترفع أعمالهم ) ، أي : تكتب الأعمال الصالحة التي ترفع في هذه السنة يوما فيوما ، ولهذا سألت عائشة : ما من أحد إلخ ، أي كما سيأتي ، والاستفهام على سبيل التقرير ، يعني إذا كانت الأعمال الصالحة الكائنة في تلك السنة تكتب قبل وجودها يلزم من ذلك أن أحدا لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ، فقرره النبي صلى الله عليه وسلم بما أجاب .

قال ابن حجر : حذف في هذه السنة من هذا وما بعده للعلم به مما قبله ، والمعنى ترفع أعمالهم إلى الملأ الأعلى ، ولا ينافيه رفعها كل يوم أعمال الليل بعد صلاة الصبح ، وأعمال النهار بعد صلاة العصر ، وكل يوم اثنين وخميس ; لأن الأول رفع عام لجميع ما يقع في السنة ، والثاني رفع خاص لكل يوم وليلة ، والثالث رفع لجميع ما يقع في الأسبوع وكان حكمة تكرير هذا الرفع مزيد تشريف الطائعين وتقبيح العاصين ، وقيد شارح الأعمال بالصالحة : وكأنه أخذه من قوله تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) وواضح أن الآية لا تدل لذلك ; لأن المراد بالرفع فيها القبول وهو غير المراد في هذا الحديث . ( وفيها تنزل ) : بالبناء للفاعل ، وروي بالبناء للمفعول مخففا ومشددا ( أرزاقهم ) ، أي : أسباب أرزاقهم أو تقديرها ، وهو يشمل حسيها ومعنويها .

قال ابن حجر : يحتمل أن المراد تنزيل علم مقاديرها للموكلين بها ، أو أسبابها كالمطر بأن ينزل إلى سماء الدنيا ، أو من سماء الدنيا إلى السحاب الذي بينها وبين الأرض ، ولم أر في ذلك ما يوضح المراد ، وقوله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) قد يشهد للثاني ، واحتمال إرادة السحاب بالسماء خلاف الظاهر ، قيل : هذا كله مأخوذ من قوله تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) اهـ .

وهو مبني على المراد في الآية هذه الليلة ، وهو وإن قال به جماعة من السلف إلا أن ظاهر القرآن بل صريحه يرده لإفادته في آية أنه نزل في رمضان ، وفي أخرى أنه نزل ليلة القدر ، ولا تخالف بينهما ; لأن ليلة القدر من جملة رمضان ، والمراد بهذا النزول نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم نزل عليه - عليه الصلاة والسلام - متفرقا بحسب الحجة والوقائع ، وإذا ثبت أن هذا النزول ليلة القدر ثبت أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم في الآية هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان ، ولا نزاع في أن ليلة نصف شعبان يقع فيها فرق ، كما صرح به الحديث ، وإنما النزاع في أنها المرادة من الآية ، والصواب أنها ليست مرادة منها ، وحينئذ يستفاد من الحديث والآية وقوع ذلك الفرق في كل من الليلتين إعلاما بمزيد شرفهما اهـ .

ويحتمل أن يقع الفرق في ليلة النصف ما يصدر إلى ليلة القدر ، ويحتمل أن يكون الفرق في إحداهما إجمالا ، وفي الأخرى تفصيلا ، أو تخص إحداهما بالأمور الدنيوية ، والأخرى بالأمور الأخروية ، وغير ذلك من الاحتمالات العقلية . ( فقالت : يا رسول الله ! ما من أحد ) : من زائدة لتأكيد الاستغراق ( يدخل الجنة ) ، أي : أولا وآخرا بدلالة الإطلاق ، لعدم الوجوب بالاستحقاق ( إلا برحمة الله تعالى ؟ فقال : " ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى ) : [ ص: 975 ] ولا يعارضه قوله تعالى : ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) لأن العمل سبب صوري ، وسببه الحقيقي هو رحمة الله لا غير ، على أنه من جملة الرحمة بالعبد ، فلم يدخل إلا بمحض الرحمة على كل تقدير ، وقيل دخولها بالرحمة ، وتفاوت الدرجات بتفاوت الطاعات والخلود بالنيات . ( ثلاثا ) ، أي : قال هذا القول ثلاث مرات للتأكيد ، أو باعتبار الحالات الثلاث من الأولى والوسطى والأخرى ، وفي نسخة العفيف لفظ ثلاثا غير مذكور . ( قلت ) : هذا رجوع إلى الأصل في الكلام أن يكون باللفظ لا بالمعنى ، وقول ابن حجر فيه التفات من الراوي عنها لا يظهر له معنى . ( ولا أنت يا رسول الله ؟ ) ، أي : ما تدخل الجنة إلا برحمته تعالى مع كمال مرتبتك في العلم والعمل . ( فوضع يده ) ، أي : تواضعا ( على هامته ) ، أي : رأسه وهو موضع التكبر ، وقال الطيبي : وفي وضع اليد على الرأس ، والله أعلم إشارة إلى افتقار كل الافتقار من شمول رحمة الله تعالى له من رأسه إلى قدمه ، ( فقال : " ولا أنا ) ، أي : ولا أدخلها أنا في زمان من الأزمنة ، ( إلا أن يتغمدني الله ) ، أي : إلا وقت أن يستر ذاتي ويحيط بي من كل جهاتي ، مأخوذ من الغمد وهو غلاف السيف ( منه ) ، أي : من عنده وفضله وكرمه ( برحمته ) : لا بعلم وعمل مني ، مع أنهما لا يتصوران من غير جهة عنايته ( يقولها ) ، أي : هذه الجمل وهي : ولا أنا . إلخ . ( ثلاث مرات ) : طبق الأول في التأكيد . ( رواه البيهقي في الدعوات الكبير ) .




الخدمات العلمية