الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2326 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن الله - تبارك وتعالى - أنه قال : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ; فاستهدوني أهدكم . يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ; فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ; فاستكسوني أكسكم . يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي لو أن أولكم ، وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ; ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ; ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ، ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " . رواه مسلم .

التالي السابق


2326 - ( وعن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي ) أي : بواسطة أو بغيرها ، يقظة أو مناما ، باللفظ أو المعنى ( عن الله تبارك ) أي : تكاثر خيره وظهر في هذا الخير بعض أثره ، ( وتعالى ) أي : عن مشابهة المخلوقين في الرواية وغيرها ( أنه ) : ضبط بفتح الهمزة وكسرها ، فتأمل في الفرق بينهما ( قال : " يا عبادي ) : قال الطيبي : الخطاب للثقلين لتعاقب التقوى والفجور فيهم ، ويحتمل أن يعم الملائكة فيكون ذكرهم مدرجا في الجن لشمول الاجتنان لهم ، وتوجه هذا الخطاب لا يتوقف على صدور الفجور ، ولا على إمكانه . اهـ . وكذا الجوع والعري ، لكن الأولى الحمل على الإمكان العقلي ، أو يحمل على الخطاب التغليبي ( إني حرمت الظلم على نفسي ) أي : تقدست عنه وتعاليت ، فهو في حقي كالمحرم في حق الناس ، إذ لا يتصور في حقه ظلم ، سواء قلنا : إن الظلم وضع الشيء في غير محله ، أو أنه التعدي في ملك الغير ، وهو المحمود في كل أفعاله من غير فصل ، لأن فعله إما عدل ، وإما فضل . ( وجعلته بينكم محرما ) : قال ابن حجر : أي تحريما غليظا جدا ، فهو آكد من حرمته عليكم ، فلذا عدل إليه . اهـ .

والصحيح أن العدول لئلا يتوهم المشاركة في معنى التحريم السابق ، ( فلا تظالموا ) : بفتح التاء حذفت إحدى التاءين تخفيفا أي : لا يظلم بعضكم بعضا ، فإني أنتقم للمظلوم من ظالمه كما في الحديث : " يقول الله تعالى جل جلاله لأنتصرن للمظلوم ولو بعد حين " . وقال تعالى : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار فهو يمهل ولا يهمل ( يا عبادي ) : كرره للتنبيه على فخامته والاعتناء بشأنه . قاله [ ص: 1612 ] ابن حجر . والأظهر أنه إيماء إلى مقتضى العبودية من الافتقار إلى مراعاة حق الربوبية ( كلكم ضال ) أي : عن كل كمال وسعادة دينية ودنيوية ( إلا من هديته ) : قيل : المراد به وصفهم بما كانوا عليه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنهم خلقوا في الضلالة ، والأظهر أن يراد أنهم لو تركوا بما في طباعهم لضلوا ، وهذا معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره " ، وهو لا ينافي قوله - عليه الصلاة والسلام - : " كل مولود يولد على الفطرة " فإن المراد بالفطرة التوحيد ، والمراد بالضلالة جهالة تفصيل أحكام الإيمان وحدود الإسلام ، ومنه قوله تعالى : ووجدك ضالا وقيل : معناه عاشقا ( فاستهدوني ) أي : اطلبوا الهداية مني أي نوع منها ( أهدكم ) : إذ لا هادي إلا الله ، ولولا الله ما اهتدينا ، ولما فرغ من الامتنان بالأمور الدينية شرع في الأمور الدنيوية تكميلا للمرتبتين ، مقتصرا على الأمرين الأهمين منها ، وهو الأكل واللبس كقوله تعالى في وصف الجنة : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ولعل ترك الظمأ اكتفاء بدلالة المقابلة نحو قوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر أي : والبرد ، وترك المأوى لشمول الكسوة التي هي السترة له إيماء أو إشارة ( يا عبادي كلكم جائع ) أي : محتاج إلى الطعام ( إلا من أطعمته ) أي : من أطعمته وبسطت عليه الرزق وأغنيته ، فلا يشكل أن الإطعام عام للجميع ، فكيف يستثني ( فاستطعموني ) أي : اطلبوا الطعام من جنابي وتيسير القوت والقوة من بابي ، ( أطعمكم . يا عبادي كلكم عار ) أي : محتاج إلى ستر عورته وإلى التنعم بأنواع لباسه وزينته ( إلا من كسوته ، فاستكسوني ) أي : اطلبوا مني الكسوة ( أكسكم ) : بضم السين أي : أيسر لكم حالاتكم ، وأزيل عنكم مساوئ كشف سوآتكم .

قال الطيبي ، فإن قلت : ما معنى الاستثناء في قوله : إلا من أطعمته وكسوته ، إذ ليس أحد من الناس محروما منهما قلت : الإطعام والكسوة لما كانا معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق وعدمهما عن التقتير والتضييق ، كما قال الله تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء سهل التخيل عن الجواب ، فظهر من هذا أن ليس المراد من إثبات الجوع والعري في المستثنى منه نفي الشبع والكسوة بالكلية ، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقا ، بل المراد بسطهما وتكثيرهما ، ويوضحه الحديث الرابع عشر من الفصل الثاني ، أنه وضع قوله : كلكم فقراء إلا من أغنيته في موضعه . اهـ . وهو في غاية من البهاء ، وهو عين ما أخذه ابن حجر عنه ، ثم أغرب وقال : وهذا الذي قررته أولى مما سلكه شارح فتأمله .

( يا عبادي إنكم تخطئون ) : بضم التاء وكسر الطاء وفتحهما ، وقيل يجوز ضمهما تخفيفا بحذف الهمزة . في القاموس : خطأ في ذنبه وأخطأ : سلك سبيل الخطأ عامدا أو غيره ، أو الخاطئ متعمده ، وأخطيت لغة أو لثغة ، هي تحول اللسان من حرف إلى حرف ، والمعنى تذنبون بالفعل ، باعتبار أكثرهم ، وبالقوة باعتبار أقلهم ، وأما قول ابن حجر : غير المعصومين إذ ليسوا مرادين بهذا فهو خطأ ظاهر لعموم عبادي الشامل لهم ولغيرهم في السابق واللاحق ، نعم حسنات الأبرار سيئات المقربين ، واستغفارهم غير استغفار المذنبين . ( بالليل والنهار ) أي : في هذين الزمانين ، وأما تخصيص النهار في قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار لغلبة الذنب فيه . ( وأنا أغفر الذنوب جميعا ) أي : بالتوبة أو ما عدا الشرك إن شاء جمعا بين آيتي الزمر والنساء ، أو بالاستغفار والأذكار ونحوهما . ( فاستغفروني ) أي : اطلبوا المغفرة مني ( أغفر لكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري ) : بفتح الضاد وضمه ( فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) : حذف نون الإعراب منهما في نصبهما على جواب النفي ، أي : لا يصح منكم ضري ولا نفعي ، فإنكم لو اجتمعتم على عبادتي أقصى ما يمكن ما نفعتموني في ملكي ، ولو اجتمعتم على عصياني أقصى ما يمكن لم تضروني ، بل إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن [ ص: 1613 ] أسأتم فلها ، وهذا معنى قوله : ( يا عبادي لو أن أولكم ) أي : من الموجودين ( وآخركم ) : ممن سيوجد ، وقال ابن الملك : أي : من الأموات والأحياء ، والمراد جميعكم ( وإنسكم ، وجنكم ) : تعميم بعد تعميم للتأكيد ، أو تفصيل وتبيين ( كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ) أي : لو كنتم على غاية التقوى بأن تكونوا جميعا على تقوى أتقى قلب رجل واحد منكم .

وقال القاضي : أي : على تقوى أتقى أحوال قلب رجل ، أي : كان كل واحد منكم على هذه الصفة . وقال الطيبي : لا بد من أحد التقديرين ليستقيم أن يقع أتقى خبرا لكان ، ثم أنه لم يرد أن كلهم بمنزلة رجل واحد هو أتقى الناس ، بل كل واحد من الجمع بمنزلته لأن هذا أبلغ كقولك : ركبوا فرسهم ، وعليه قوله تعالى :ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم في وجه إضافة أفعل إلى نكرة مفردة تدل أنك لو تقصيت قلب رجل من كل الخلائق لم تجد أتقى قلبا من هذا الرجل . اهـ .

ولهذا فسر بقلب نبينا - صلى الله عليه وسلم - وقلب الأشقى بقلب إبليس . ( ما زاد ذلك ) أي : ما ذكر ( في ملكي شيئا ) : إما مفعول به أو مصدر ، وهذا راجع إلى ( لن يبلغوا ) ففي ( فتنفعوني ) نشر مشوش اعتمادا على فهم السامع ، ولمقاربة المناسبة بين المتوسطين ويسمى ترقيا وتدليا ونظيره قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت الآية . ( يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر ) أي : فجور أفجر ، أو على أفجر أحوالهم ( قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ) : بالتخفيف ( ذلك ) أي : ما ذكر ( من ملكي شيئا ) : قال الطيبي : يجوز أن يكون مفعولا به . إن قلنا : إن ( نقص ) متعد ، ومفعولا مطلقا إن قلنا : إنه لازم أي نقص نقصانا قليلا ، والتنكير فيه للتحقير ، بدليل قوله في الحديث الآتي بدله : ( جناح بعوضة ) وهذا راجع إلى قوله : لن يبلغوا ضري فيضروني ، وأغرب ابن حجر بقوله : ( نقص ) متعد إلى مفعولين في الأفصح ، و ( شيئا ) مفعوله الثاني نحو : لم ينقصوكم شيئا . اهـ . ووجه غرابته أنه ليس في الحديث مفعول آخر حتى يكون ( شيئا ) مفعوله الثاني ، ولعله توهم أن ذلك هو المفعول الأول وهو خطأ لفساد المعنى ، والصواب أنه فاعل نقص ، فإذا كان كذلك فتعين ما قاله الطيبي ، مع أن استدلاله بالآية غير صحيح ، لأن ( شيئا ) فيها يحتمل أن يكون منصوبا على المصدرية أي : شيئا من النقص ، ويحتمل أن نصبه على المفعولية أي : شيئا من شروط العهد ، وحينئذ يحتمل كون ( ينقصوكم ) من باب الحذف والإيصال ، أي : لم ينقصوا منكم أي من عهودكم شيئا . قال أبو البقاء : الجمهور بالصاد ، وقرئ بالضاد أي : عهودكم فحذف المضاف و ( شيئا ) في موضع المصدر ( يا عبادي لو أن أولكم ، وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا ) أي : وقفوا أو استمروا ( في صعيد ) أي : مقام ( واحد ) : قال ابن حجر : الصعيد يطلق على التراب وعلى وجه الأرض ، وهو المراد هنا . قلت : فهو المراد في الآية أيضا مطابقة لما بينهما ، لأن بعضهما يفسر بعضا ( فسألوني ) أي : كلهم أجمعون . قال الطيبي - رحمه الله - : قيد السؤال بالاجتماع في مقام واحد ، لأن تزاحم السؤال وازدحامهم مما يدهش المسئول ويهم ويعسر عليه إنجاح مآربهم وإسعاف مطالبهم ، ( فأعطيت كل إنسان مسألته ) أي : في آن واحد ، وفي مكان واحد ( ما نقص ذلك ) أي : الإعطاء ( مما عندي ) : قال تعالى : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ( إلا كما ينقص ) أي : كالنقص أو الشيء الذي ينقصه ( المخيط ) : بكسر الميم وسكون الخاء أي : الإبرة ( إذا أدخل البحر ) : بالنصب على أنه مفعول ثان للإدخال . قال الطيبي : لما لم يكن ما ينقصه المخيط محسوسا ولا معتدا به عند العقل ، بل كان في حكم العدم كان أقرب المحسوسات وأشبهها بإعطاء حوائج الخلق كافة ، فإنه لا ينقص مما عنده شيئا . وقال ابن الملك : أو يقال أنه من باب الفرض والتقدير ، يعني لو فرض النقص في ملك الله لكان بهذا المقدار ( يا عبادي ، إنما هي ) أي : القصة ( أعمالكم أحصيها ) أي : أحفظها وأكتبها ( عليكم ) : كذا في الأصول المعتمدة بلفظ : عليكم ، وهو المناسب للمقام ، ووقع في أصل [ ص: 1614 ] ابن حجر : لكم . وقال وفي نسخة : عليكم . وقال الطيبي : أي جزاء أعمالكم ، تفسير للضمير المبهم ، وقيل : هو راجع إلى ما يفهم من قوله : على أتقى قلب رجل ، وعلى أفجر قلب رجل ، وهو الأعمال الصالحة والطالحة ، أي : ليس نفع أعمالكم راجعا إلي بل إليكم ( ثم أوفيكم إياها ) : التوفية إعطاء حق واحد على التمام أي : أعطيكم جزاء أعمالكم وافيا تاما ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر . ( فمن وجد خيرا ) أي : توفيق خير من ربه وعمل خير من نفسه ( فليحمد الله ) أي : على توفيقه إياه للخير لأنه الهادي ( ومن وجد غير ذلك ) أي : شرا أو أعم منه ( فلا يلومن إلا نفسه ) : لأنه صدر من نفسه ، أو لأنه باق على ضلاله الذي أشير إليه بقوله : كلكم ضال . قال ابن الملك : هذا صريح في أن الخير من الله ، والشر من النفس . وهذا غريب وعجيب منه إذ تقرر في المعتقد ، وتحرر في المعتمد ، أن الخير والشر كله من الله خلقا ، ومن العبد كسبا ، خلافا للخوارج والمعتزلة من أهل البدعة ، نعم ينسب الشر إلى النفس أدبا مع الله تعالى ، كما قيل في قوله : وإذا مرضت فهو يشفين وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الخير بيديك والشر ليس إليك " . وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث هذا الحديث جثا على ركبتيه تعظيما . ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية