الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4830 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رجلا استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ائذنوا له ، فبئس أخو العشيرة " فلما جلس تطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت عائشة : يا رسول الله ! قلت له : كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه ، وانبسطت إليه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " متى عاهدتني فحاشا ؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره " ، وفي رواية : " اتقاء فحشه " . متفق عليه .

التالي السابق


4830 - ( وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن رجلا ) : قيل : هو عيينة الفزاري ، وقيل : مخرمة بن نوفل ، ويمكن الجمع بتعداد الواقعة ( استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : في الدخول عليه ( فقال : " ائذنوا ) : بهمز ساكنة وصلا ويجور إبدالها ياء لكن إذا ابتدئ به يقرأ بهمزة مكسورة وياء ساكنة والدال مفتوحة مطلقا أي : أعطوا الإذن ( له ) أو أعلموه بالإذن ( فبئس أخو العشيرة ) أي : بئس هو من قومه ، وفي رواية للبخاري : بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة من غير شك . و في الشمائل : بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة على الشك ، فقيل : يحتمل أن يكون الشك من سفيان ، فإن جميع أصحاب المنكدر رووه عنه بدون الشك . قال الطيبي : العشيرة القبيلة أي : بئس هذا الرجل من هذه العشيرة ، كما يقال : يا أخا العرب لرجل منهم . قال النووي : اسم هذا الرجل عيينة بن حصن ، ولم يكن أسلم حينئذ ، وإن كان قد أظهر الإسلام ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين حاله ليعرفه الناس ولا يغتر به من لم يعرف بحاله ، وكان منه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده ما دل على ضعف إيمانه ، ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة ؛ لأنه ظهر كما وصف .

( فلما جلس ) أي : بعد دخوله ( تطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه ) أي : أظهر له طلاقة الوجه وبشاشة البشرة ( وانبسط إليه ) أي : تبسم له وألان القول له كما في رواية . وقال شارح أي : جعله قريبا من نفسه . قال النووي : وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام ، وفيه مداراة من يتقى فحشه وجواز غيبة الفاسق . وفي شرح السنة : فيه دليل على أن ذكر الفاسق بما فيه ليعرف أمره فيتقى لا يكون من الغيبة ، ولعل الرجل كان مجاهرا بسوء أفعاله ولا غيبة لمجاهر . قال النووي : ومن الذين يجوز لهم الغيبة المجاهر بفسقه أو بدعته ، فيجوز ذكره بما يجهر به ولا يجوز بغيره ( فلما انطلق الرجل ) أي : ذهب ( قالت عائشة ) : لعل هذا نقل بالمعنى ، ويدل عليه رواية الشمائل عن عروة عن عائشة قالت : استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا عنده فقال : " بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة " ثم أذن له فألان له القول ، فلما خرج قلت : ( يا رسول الله ! قلت له : كذا وكذا ) وفي الشمائل قلت له ما قلت ( ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه ) . أي ألنت له القول على ما في الشمائل ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى عاهدتني ) أي : وجدتني ورأيتني ( فحاشا ؟ ) أي : ذا فحش يعني : قائلا للفحش ، وأصل الفحش زيادة الشيء على مقداره ، وهذا إنكار على قولها : إنك خالفت بين الغيب والحضور ، فلم لم تذممه في الحضور كما ذممته في الغيب ؟ ( إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة ) : استئناف كالتعليل لقوله : متى عاهدتني فحاشا ( من تركه الناس ) : وفي رواية : ودعه الناس كقراءة : " ما ودعك " في الشواذ بالتخفيف ، وفيه رد لقول الصرفيين : أماتوا ماضي يدع إلا أن يريدوا بإماتته ندرته ، فهو شاذ استعمالا صحيح قياسا ، والمعنى : من ترك الناس التعرض له ( اتقاء شره ) . كيلا يؤذيهم بلسانه ، وفيه رخصة المداراة لدفع الضرر .

[ ص: 3034 ] ( وفي رواية ) أي : للشيخين وغيرهما ( اتقاء فحشه ) . وهو مجاوزة الحد قولا وفعلا ، وقيل : المعنى إنما ألنت له القول ؛ لأني لو قلت له في حضوره ما قلته في غيبته لتركني اتقاء فحشي ، فأكون أشر الناس . قيل : ذلك الرجل كما وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ارتد بعد موته مع المرتدين ، وجيء به أسيرا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - . وفي فتح الباري : إن عيينة ارتد في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم ، وكان يقال له الأحمق المطاع ، كذا فسره به القاضي عياض والقرطبي والنووي ، وأخرج عبد الغني من طريق أبي عامر الخزاعي عن عائشة قالت : جاء مخرمة بن نوفل يستأذن ، فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوته قال : " بئس أخو العشيرة " . الحديث ذكره القسطلاني في المواهب ، وقد جمع هذا الحديث كما قاله الخطابي علما وأدبا ، وليس قوله عليه السلام في أمته بالأمور التي يسمهم بها ، ويضيفها إليهم من المكروه غيبة ، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض ، بل الواجب عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمورهم ، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة ، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ، ولم يجبه بالمكروه وليقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله ، وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته . وقال القرطبي : فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك ، مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة ، ثم قال تبعا للقاضي حسين : والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا ، وهي مباحة ، وربما استحسنت ، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا اهـ . وهذه فائدة جليلة ينبغي حفظها والمحافظة عليها ، فإن أكثر الناس عنها غافلون وبالفرق بينهما جاهلون . ( متفق عليه ) . وفي الجامع الصغير : " إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ترك اتقاء فحشه " . رواه الشيخان وأبو داود والترمذي ، وفي رواية الطبراني في الأوسط ، عن أنس بلفظ . " من يخاف الناس شره "




الخدمات العلمية