الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

286 - واختلفوا هل يقبل المجهول وهو على ثلاثة مجعول      287 - مجهول عين : من له راو فقط
ورده الأكثر والقسم الوسط      288 - مجهول حال باطن وظاهر
وحكمه الرد لدى الجماهر      289 - والثالث المجهول للعداله
في باطن فقط فقد رأى له      290 - حجية في الحكم بعض من منع
ما قبله منهم سليم فقطع      291 - به وقال الشيخ إن العملا
يشبه أنه على ذا جعلا      292 - في كتب من الحديث اشتهرت
خبرة بعض من بها تعذرت      293 - في باطن الأمر وبعض يشهر
ذا القسم مستورا وفيه نظر

[ الاختلاف في المجهول ] : السابع : ( واختلفوا ) أي : العلماء ( هل يقبل ) الراوي ( المجهول ) مع كونه مسمى ( وهو على ثلاثة ) من الأقسام ( مجعول ) . الأول : ( مجهول عين ) ، وهو كما قاله غير واحد : ( من له راو ) واحد ( فقط ) كجبار - بالجيم وموحدة وزن شداد ، الطائي ، وسعيد بن ذي حدان ، وعبد الله أو مالك بن أعز ، بمهملة ثم معجمة ، وعمرو الملقب ذي مر الهمداني ، وقيس بن كركم الأحدب ; فإن كل واحد من هؤلاء لم يرو عنه سوى أبي إسحاق السبيعي ، وكجري بن كليب السدوسي البصري ، وحلام بن جزل ، وسمعان بن مشنج أو مشمرج ، وعبد الله بن سعد التيمي ، وعبد الرحمن بن نمر اليحصبي ، وعمير بن إسحاق القرشي ، ومحمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني ، ومحمد بن عثمان بن عبد الله بن موهب ، وأبي يحيى مولى أبي جعدة ; حيث لم يرو عن الأول إلا قتادة .

وعن الثاني إلا أبو الطفيل الصحابي ، وعن الثالث إلا الشعبي ، وعن الرابع إلا بكير بن الأشج ، وعن الخامس إلا الوليد بن مسلم ، [ ص: 47 ] وعن السادس إلا عبد الله بن عون ، وعن السابع إلا الزهري ، وعن الثامن إلا شعبة ، وعن التاسع إلا الأعمش ، هذا مع تخريج الشيخين لابن موهب لكن مقرونا ، والبخاري لابن نمر في المتابعة ، وللمخزومي تعليقا ، وللتيمي في الأدب المفرد ، ومسلم لأبي يحيى في المتابعة في أشباه لذلك تؤخذ من جزء الوحدان لمسلم كما سأنبه عليه فيمن لم يرو عنه إلا واحد إن شاء الله .

[ ( و ) لكن قد ( رده ) أي : مجهول العين ( الأكثر ) من العلماء مطلقا . وعبارة الخطيب : " أقل ما يرتفع به الجهالة ; أي : العينية عن الراوي ، أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم " ، بل ظاهر كلام ابن كثير الاتفاق عليه ، حيث قال : " المبهم الذي لم يسم ، أو من سمي ولا تعرف عينه ، لا يقبل روايته أحد علمناه . نعم ، قال : إنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لأهلها بالخيرية فإنه يستأنس بروايته ، ويستضاء بها في مواطن ، كما أسلفت حكايته في آخر رد الاحتجاج بالمرسل .

وكأنه سلف ابن السبكي في حكاية الإجماع على الرد ونحوه قول ابن المواق : " لا خلاف أعلمه بين أئمة الحديث في رد المجهول الذي لم يرو عنه إلا واحد ، وإنما يحكى الخلاف عن الحنفية " ، يعني كما تقدم ] .

وقد قبل أهل هذا القسم مطلقا من العلماء من لم يشترط في الراوي مزيدا على الإسلام ، وعزاه ابن المواق للحنفية ; حيث قال : إنهم لم يفصلوا بين من روى عنه واحد وبين من روى عنه أكثر من واحد ، بل قبلوا رواية المجهول على [ ص: 48 ] الإطلاق - انتهى .

وهو لازم كل من ذهب إلى أن رواية العدل بمجردها عن الراوي تعديل له ، بل عزا النووي في مقدمة شرح مسلم لكثيرين من المحققين الاحتجاج به .

وكذا ذهب ابن خزيمة إلى أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور . وإليه يومئ قول تلميذه ابن حبان : العدل من لم يعرف فيه الجرح ; إذ التجريح ضد التعديل ، فمن لم يجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه ، إذ لم يكلف الناس ما غاب عنهم . وقال في ضابط الحديث الذي يحتج به ما محصله : إنه هو الذي تعرى راويه من أن يكون مجروحا ، أو فوقه مجروح ، أو دونه مجروح ، أو كان سنده مرسلا أو منقطعا ، أو كان المتن منكرا ، فهذا مشعر بعدالة من لم يجرح ممن لم يرو عنه إلا واحد .

ويتأيد بقوله في ثقاته : أيوب الأنصاري عن سعيد بن جبير وعنه مهدي بن ميمون : لا أدري من هو ، ولا ابن من هو ؟ فإن هذا منه يؤيد أنه يذكر في الثقات كل مجهول روى عنه ثقة ولم يجرح ، ولم يكن الحديث الذي يرويه منكرا ، وقد سلفت الإشارة لذلك في الصحيح الزائد على الصحيحين .

وقيد بعضهم القبول بما إذا كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل ; كابن مهدي وغيره ممن سلف ذكر جماعة منهم حيث اكتفينا في التعديل بواحد على [ ص: 49 ] المعتمد كما تقدم ، وهو مخدوش بما بين قريبا ، وكذا خصه ابن عبد البر بمن يكون مشهورا ، أي بالاستفاضة ونحوها في غير العلم بالزهد كشهرة مالك بن دينار به ، أو بالنجدة كعمرو بن معدي كرب ، أو بالأدب والصناعة ونحوها .

فأما الشهرة بالعلم والثقة والأمانة فهي كافية من باب أولى ، كما تقدم في الفصل الثاني ، بل نقله الخطيب في الكفاية هنا أيضا عن أصحاب الحديث ; فإنه قال : المجهول عند أصحاب الحديث هو من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ، ولا عرفه العلماء به ، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد ، يعني حيث لم يشتهر . ونحوه ما نقله ابن الصلاح عنه أيضا أنه قال في أجوبة مسائل سئل عنها : المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يعرفه العلماء ، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد .

ولذا قال ابن عبد البر : الذي أقوله أن من عرف بالثقة والأمانة والعدالة لا يضره إذا لم يرو عنه إلا واحد . ونحوه قول أبي مسعود الدمشقي الحافظ : إنه برواية الواحد لا ترتفع عن الراوي اسم الجهالة ، إلا أن يكون معروفا في قبيلته ، أو يروي عنه آخر .

ويقرب من ذلك انفراد الواحد عمن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ; حيث جزم [ ص: 50 ] المؤلف بأن الحق أنه إن كان المضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم معروفا بذكره في الغزوات ، أو فيمن وفد عليه ، أو نحو ذلك ; فإنه ثبتت صحبته بذلك مع كونه لم يرو عنه إلا واحد .

وخص بعضهم القبول بمن يزكيه مع رواية الواحد أحدا من أئمة الجرح والتعديل ، واختاره ابن القطان في بيان الوهم والإيهام ، وصححه شيخنا ، وعليه يتمشى تخريج الشيخين في صحيحيهما لجماعة أفردهم المؤلف بالتأليف .

فمنهم ممن اتفق عليه حصين بن محمد الأنصاري المدني ، وممن انفرد به البخاري جويرية أو جارية بن قدامة ، وزيد بن رباح المدني ، وعبد الله بن وديعة الأنصاري ، وعمر بن محمد بن جبير بن مطعم ، والوليد بن عبد الرحمن الجارودي ، وممن انفرد به مسلم جابر بن إسماعيل الحضرمي ، وخباب المدني صاحب المقصورة ; حيث تفرد عن الأول الزهري ، وعن الثاني أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي ، وعن الثالث مالك ، وعن الرابع أبو سعيد المقبري ، وعن الخامس الزهري ، وعن السادس ابنه المنذر ، وعن السابع ابن وهب ، وعن الثامن عامر بن سعد بن أبي وقاص ; فإنهم مع ذلك موثقون لم يتعرض أحد من أئمة الجرح والتعديل لأحد منهم بتجهيل . نعم ، جهل أبو حاتم محمد بن الحكم المروزي الأحول أحد شيوخ البخاري [ ص: 51 ] في صحيحه ، والمنفرد عنه بالرواية ; لكونه لم يعرفه .

ولكن نقول : معرفة البخاري به التي اقتضت له روايته عنه ولو انفرد بهما كافية في توثيقه ، فضلا عن أن غيره قد عرفه أيضا ، ولذا صرح ابن رشيد كما سيأتي بأنه لو عد له المنفرد عنه كفى .

وصححه شيخنا أيضا إذا كان متأهلا لذلك ، ومن هنا ثبتت صحبة الصحابي برواية الواحد المصرح بصحبته عنه .

على أن قول أبي حاتم في الرجل : إنه مجهول ، لا يريد به أنه لم يرو عنه سوى واحد ، بدليل أنه قال في داود بن يزيد الثقفي : مجهول ، مع أنه قد روى عنه جماعة ، ولذا قال الذهبي عقبه : هذا القول يوضح لك أن الرجل قد يكون مجهولا عند أبي حاتم ولو روى عنه جماعة ثقات ، يعني أنه مجهول الحال ، وقد قال في عبد الرحيم بن كردم بعد أن عرفه برواية جماعة عنه : إنه مجهول .

[ ص: 52 ] ونحوه قوله في زياد بن جارية التميمي الدمشقي مع أنه قيل في زياد هذا : إنه صحابي . وبما تقرر ظهر أن قول ابن الصلاح في بعض من خرج لهم صاحبا الصحيح ممن لم يرو عنهم إلا واحد ما نصه : " وذلك مصير منهما إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولا مردودا برواية واحد عنه " ، ليس على إطلاقه .

وممن أثنى على من اعترف له بأنه لم يرو عنه إلا واحد أبو داود ، فقال في عبد الله بن عمر بن غانم الرعيني قاضي إفريقية : أحاديثه مستقيمة ، ما أعلم حدث عنه غير القعنبي وابن المديني ، فقال في جون بن قتادة : إنه معروف لم يرو عنه غير الحسن البصري .

[ ص: 53 ] وإنما أوردت كلامه لبيان مذهبه ، وإلا فجون قد روى عنه غير الحسن ، على أن ابن المديني نفسه قال في موضع آخر : إنه من المجهولين من شيوخ الحسن .

وبالجملة فرواية إمام ناقل للشريعة لرجل ممن لم يرو عنه سوى واحد في مقام الاحتجاج كافية في تعريفه وتعديله .

ووراء هذا كله مخالفة ابن رشيد في تسميته من لم يرو عنه إلا واحد مجهول العين ، مع موافقته على عدم قبوله ; فإنه قال : لا شك أن رواية الواحد الثقة تخرج عن جهالة العين إذا سماه ونسبه .

وقسم بعضهم المجهول فقال : مجهول العين والحال معا ; كعن رجل ، والعين فقط ; كعن الثقة ، [ يعني على القول بالاكتفاء به ] ، أو عن رجل من الصحابة ، والحال فقط ; كمن روى عنه اثنان فصاعدا ولم يوثق ، فأما جهالة التعيين فخارجة عن هذا كله ; كأن يقول : أخبرني فلان أو فلان ويسميهما ، وهما عدلان ، فالحجة قائمة بذلك ، فإن جهلت عدالة أحدهما مع التصريح باسمه أو إبهامه فلا . [ انتهى ، وينظر في إلحاق مسألة الباب بأي أقسامه ] .

( والقسم الوسط ) أي : الثاني ( مجهول حال باطن ) وحال ( ظاهر ) من العدالة وضدها ، مع عرفان عينه برواية عدلين عنه ( وحكمه الرد ) وعدم القبول ( لدى ) أي : عند ( الجماهر ) من الأئمة . وعزاه ابن المواق للمحققين ، ومنهم أبو حاتم [ ص: 54 ] الرازي ، وما حكيناه من صنيعه فيما تقدم يشهد له .

وكذا قال الخطيب : لا يثبت للراوي حكم العدالة برواية الاثنين عنه .

وقال ابن رشيد : لا فرق في جهالة الحال بين رواية واحد واثنين ما لم يصرح الواحد أو غيره بعدالته . نعم ، كثرة رواية الثقات عن الشخص تقوي حسن الظن به .

وأما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء فهم متروكون ، كما قال ابن حبان ، على الأحوال كلها .

وتوجيه هذا القول أن مجرد الرواية عن الراوي لا تكون تعديلا له على الصحيح كما تقدم . وقيل : تقبل مطلقا ، وهو لازم من جعل مجرد رواية العدل عن الراوي تعديلا له كما تقدم مثله في القسم الأول ، وأولى ، بل نسبه ابن المواق لأكثر أهل الحديث كالبزار والدارقطني .

وعبارة الدارقطني : " من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته ، وثبتت عدالته . وقال أيضا في الديات نحوه ، وكذا اكتفى بمجرد روايتهما ابن حبان ، بل توسع كما تقدم في مجهول العين . وقيل : يفصل ، فإن كان لا يرويان إلا عن عدل قبل ، وإلا فلا .

( و ) القسم ( الثالث المجهول للعداله ) أي : مجهول العدالة ( في باطن فقط ) مع كونه عدلا في الظاهر ( ف ) هذا ( قد رأى له حجية ) أي : احتجاجا به ( في الحكم بعض من منع ) من الشافعية ( ما قبله ) من القسمين ( منهم ) الفقيه ( سليم ) بضم أوله مصغرا ، ابن أيوب الرازي . وزاد : ( فقطع ) أي : جزم ( به ) لأن الأخبار تبنى على حسن الظن بالراوي ، وأيضا فلتعسر الخبرة الباطنة على الناقد .

[ ص: 55 ] وبهذا فارق الراوي الشاهد ; فإن الشهادة تكون عند الحكام ، وهم لا تتعسر عليهم ، لا سيما مع اجتهاد الأخصام في الفحص عنها ، بل عزى الاحتجاج بأهل هذا القسم كالقسم الأول لكثيرين من المحققين النووي في مقدمة شرح مسلم .

قلت : ومنهم أبو بكر بن فورك ، وكذا قبله أبو حنيفة خلافا للشافعي ، ومن عزاه إليه فقد وهم . ( وقال الشيخ ) ابن الصلاح ( إن العملا يشبه أنه على ذا ) القول الذي قطع به سليم ( جعلا في كتب ) كثيرة ( من الحديث اشتهرت ) ، وتداولها الأئمة فمن دونهم ، حيث خرج فيها لرواة ( خبرة بعض من ) خرج له منهم ( بها ) أي : بالكتب ; لتقادم العهد بهم .

( تعذرت في باطن الأمر ) ، فاقتصروا في البعض على العدالة الظاهرة ، وفيه نظر بالنسبة للصحيحين ; فإن جهالة الحال مندفعة عن جميع من خرجا له في الأصول ، بحيث لا نجد أحدا ممن خرجا له كذلك يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلا ، كما حققه شيخنا في مقدمته ، وأما بالنظر لمن عداهما لا سيما من لم يشترط الصحيح ، فما قاله ممكن ، وكأن [ ص: 56 ] الحامل لهم على هذا المسلك غلبة العدالة على الناس في تلك القرون الفاضلة .

ولذا قال بعض الحنفية : المستور في زماننا لا يقبل لكثرة الفساد وقلة الرشاد ، وإنما كان مقبولا في زمن السلف الصالح ، هذا مع احتمال اطلاعهم على ما لم نطلع عليه نحن من أمرهم . ( وبعض ) من الأئمة ، وهو البغوي في تهذيبه ( يشهر ) بفتح أوله وثالثه ; يعني : يسمي ( ذا القسم مستورا ) ، وتبعه عليه الرافعي ثم النووي ، فقال في النكاح من ( الروضة ) : إن المستور من عرفت عدالته ظاهرا لا باطنا . وقال إمام الحرمين : المستور من لم يظهر منه نقيض العدالة ، ولم يتفق البحث في الباطن عن عدالته .

قال : وقد تردد المحدثون في قبول روايته ، والذي صار إليه المعتبرون من الأصوليين أنها لا تقبل ، قال : وهو المقطوع به عندنا . وصحح النووي في شرح المهذب القبول ، وحكى الرافعي في الصوم وجهين من غير ترجيح .

قيل : والخلاف مبني على شرط قبول الرواية ، أهو العلم بالعدالة ، أو عدم العلم بالمفسق ؟ إن قلنا بالأول لم يقبل المستور ، وإلا قبلناه .

وأما شيخنا فإنه بعد أن قال : وإن روى عنه اثنان فصاعدا ولم يوثق فهو مجهول الحال ، وهو المستور .

وقد قبل روايته جماعة بغير قيد ، يعني بعصر دون آخر ، وردها الجمهور ، قال : [ ص: 57 ] والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال لا يطلق القول بردها ولا بقبولها ، بل يقال : هي موقوفة إلى استبانة حاله ، كما جزم به إمام الحرمين ، ورأى أنا إذا كنا نعتقد على شيء ، يعني مما لا دليل فيه بخصوصه ، بل للجري على الإباحة الأصلية ، فروى لنا مستور تحريمه ، أنه يجب الانكفاف عما كنا نستحله إلى تمام البحث عن حال الراوي .

قال : وهذا هو المعروف من عادتهم وشيمهم ، وليس ذلك حكما منهم بالحظر المرتب على الرواية ، وإنما هو توقف في الأمر ، فالتوقف عن الإباحة يتضمن الانحجاز ، وهو في معنى الحظر ، وذلك مأخوذ من قاعدة في الشريعة ممهدة ، وهو التوقف عند بدء وظهور الأمور إلى استبانتها ، فإذا ثبتت العدالة فالحكم بالرواية إذ ذاك ، ولو فرض فارض التباس حال الراوي واليأس عن البحث عنها ، بأن يروي مجهول ثم يدخل في غمار الناس ، ويعز العثور عليه ، فهذه مسألة اجتهادية عندي .

والظاهر أن الأمر إذا انتهى إلى اليأس لم يجب الانكفاف ، [ وانقلبت الإباحة كراهية ] . قال شيخنا : ونحوه ; أي : القول بالوقف قول ابن الصلاح فيمن جرح بجرح غير مفسر . انتهى ، وينظر في : " وانقلبت الإباحة كراهة " .

ووراء هذا أن قوله بالوقف لا ينافيه ما حكيناه أولا من جزمه بعدم قبوله ، فالمرسل مع كونه ضعيفا صرح ابن السبكي بأن الأظهر وجوب الانكفاف إذا دل على محظور ولم يوجد سواه ، بل قيل عن الشافعي احتجاجه به إذا لم يجد سواه كما أوضحت ذلك في بابه ، ونحوه ما أسلفته في أثناء الحسن عن أحمد [ ص: 58 ] أنه لا يخالف ما يضعف إلا إن وجد ما يدفعه . فثبت بهذا كله أن الاحتياط لأجل رواية راو لا ينافيه عدم قبوله ، ولكن الذي مشى عليه النووي كما في آخر الموضوع استحباب التنزه إذا وجد ضعيف لكراهة بعض البيوع والأنكحة احتياطا .

ثم إنه ممن وافق البغوي ومن تابعه في تسمية من لم تعرف عدالته الباطنة مستورا ابن الصلاح ( وفيه نظر ) إذ في عبارة الإمام الشافعي رحمه الله في اختلاف الحديث ما يدل على أن الشهادة التي يحكم الحاكم بها هي العدالة الظاهرة ; فإنه قال في جواب سؤال أورده : فلا يجوز أن يترك الحكم بشهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر ، وحينئذ فلا يحسن تعريف المستور بهذا ; فإن الحاكم لا يسوغ له الحكم بالمستور ، وأيضا يكون خادشا بظاهره في قول الرافعي في الصوم مما أشار الشارح لتأييد ابن الصلاح به : العدالة الباطنة هي التي يرجع فيها إلى أقوال المزكين ، يعني ثبتت عند الحاكم أم لا ، كما حمله عليه بعض المتأخرين .

ولكن الظاهر أن الشافعي إنما أراد الاحتراز عن الباطن الذي هو ما في نفس الأمر لخفائه عن كل واحد ، وكلامه في أول اختلاف الحديث يرشد لذلك ; فإنه قرر أنا إنما كلفنا العدل بالنظر لما يظهر لنا ; لأنا لا [ ص: 59 ] نعلم مغيب غيرنا ، ولذا لما نقل الزركشي ما أسلفت حكايته عن الرافعي في العدالة الباطنة ذكر أن نص الشافعي في اختلاف الحديث يؤيده على أنه يمكن أن يقال لمن تمسك بظاهر كلام الشافعي بشهادتهما لما انضم إلى العدالة الظاهرة من سكوت الخصم عن إبداء قادح فيهما مع توفر الداعية على الفحص فافترقا ، ولكن يمكن المنازعة في هذا بأن الخصم قد يترك حقه في الفحص بخلاف غيره من الأحكام ، فمحله التشدد .

وأما النزاع في كلام ابن الصلاح بما نقله الروياني في البحر عن نص الشافعي في الأم مما ظاهره أن المستور من لم يعلم سوى إسلامه ، فإنه قال : لو حضر العقد رجلان مسلمان ولا يعرف حالهما من الفسق والعدالة انعقد النكاح بهما في الظاهر ، قال : لأن الظاهر من المسلمين العدالة ، فيمكن أن يقال : إنه لا يمنع شمول المستور لكل من هذا ، وما قاله البغوي كما هو مقتضى التسمية .

ومن ثم جعل بعض المتأخرين أقسام المجهول كلها فيه ، وشيخنا ما عدا الأول ، وهو أشبه ، بل فسر بعضهم مما صححه السبكي المستور بمن ثبتت عدالته ، وانقطع خبره مدة يحتمل طرق نقيضها .

ثم إن الشافعي إنما اكتفى بحضورهما العقد مع رده المستور ; لأن النكاح مبناه على التراضي ، بخلاف غيره من الأحكام ، فمحله التشدد ، وأيضا فذاك عند التحمل ، ولهذا لو رفع العقد بهما إلى حاكم لم يحكم بصحته كما نقله في الروضة عن الشيخ أبي حامد وغيره .

ويتأيد بأن الشافعي رحمه الله أطلق في اختلاف الحديث له عدم احتجاجه بالمجهول ، ونحوه حكاية البيهقي في المدخل عنه أنه لا يحتج بأحاديث [ ص: 60 ] المجهولين على أن البدر الزركشي نقل عن كلام الأصوليين مما قد يتفق مع كلام الرافعي الماضي ، أن المراد بالعدالة الباطنة الاستقامة بلزومه أداء أوامر الله وتجنب مناهيه وما يثلم مروءته ، سواء ثبت عند الحاكم أم لا .

التالي السابق


الخدمات العلمية