الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الخامسة : قال مالك وابن القاسم : من سب الله سبحانه من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي كفر به انتقض عهده بخلاف نسبة الصاحبة والولد والشريك مما هو دينهم الذي أقروا عليه بالجزية ، ومن تزندق منهم لا يقتل ، لخروجه من كفر إلى كفر . قاله مالك ، وقال عبد الملك : يقتل لأنه دين لا يقر عليه بالجزية . قال ابن حبيب : ولم أعلم من قاله ولا أخذ به . قال ابن القاسم : ومن سب الله تعالى أو النبي - عليه السلام - من المسلمين قتل ولم يستتب ، وكذلك من عابه عليه السلام أو نقصه ; لأنه كالزنديق لا تعرف توبته . قال سحنون : وميراثه للمسلمين ; لأنه ردة ، وقبل توبته ( ش ) و ( ح ) ، واتفقا على أن حده القتل ; لقوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، فأخبر تعالى أن الإيمان لا يجتمع مع الحرج ، فالسب أولى بالمنافاة ، ثم هذا القتل - عندنا - حد لا يسقط بالتوبة - كتوبة القاذف .

                                                                                                                [ ص: 19 ] ونعرض للكلام في القذف فنقول : هو معنى يراعى في الإحصان ، فوجب أن يكون منه ما يعتبر في القتل كالزنا ، ولم يتصور القتل إلا في حقه عليه السلام ; لأن الحرمة لها مدخل في القذف ; لأن قاذف العبد لا يحد ، وحرمته - عليه السلام - لا تساوي حرمة أمته ، فيكون حدها القتل .

                                                                                                                احتجوا بأن حرمة الله أعظم ، وتوبته تقبل ، ولأنه لا يزيد على الردة ، والتوبة تسقط حدها ، وفي الصحيح قال بعض اليهود له - عليه السلام - ( السام عليك ) ولم يقتله ، ولم يقتل اليهودية التي سمت الشاة .

                                                                                                                الجواب عن الأول : أنا نلتزم التسوية ، أو نفرق بأن البشر قابل للنقص ، فكان التأثير فيه أعظم ، وذلك أن الله تعالى أظهر المعجزة على يد مدعي الربوبية كالدجال ، ولم يظهرها على يد مدعي النبوة ; لأن العقل يبطل الأول دون الثاني ; ولأن حق الله تعالى يسقط بالتوبة كالكفر ، وحقوق العباد لا تسقط بها كالقذف والمال ، وهو الجواب عن الثاني ، فإنه حق الله تعالى وهو كالقذف والردة ، مفسدتهما خاصة بالمرتد ، ومفسدة هذا تتعدى للأمة ، ويجوز إقرار الذمي بالجزية على سب المعبود ، بخلاف الأنبياء .

                                                                                                                والجواب عن الثالث : أنه لم ينقل في الخبر أنهم أهل عهد ، فلا يتم الدليل ، أو كان في أول الإسلام حيث كانت الموادعة مشروعة ، وهو الجواب عن الرابع ، مع [ ص: 20 ] أنه روي أنها قتلت ، وإن قلنا : قتله كفر ; لم تقبل التوبة من المسلم ; لأنها لا تعرف .

                                                                                                                تفريع : قال أصبغ : ميراثه لورثته إن كان مستترا ، أو مظهرا فللمسلمين . قال ابن القاسم ومالك : لا يقتل الساب الكافر إلا أن يسلم . قال سحنون : لا يقال له : أسلم ، ولكن إن أسلم فذلك توبته . قال ابن القاسم : إن شتم الأنبياء أو أحدا منهم ، أو نقصه قتل ولم يستتب ، ( لا نفرق بين أحد منهم ) قال مالك : إن قال الكافر : ( مسكين محمد يخبركم أنكم في الجنة فهو الآن في الجنة ، فماله لم يغن عن نفسه حين كانت الكلاب تأكل ساقيه ) . قال : لو قتلوه استراحوا منه ، وأرى أن تضرب عنقه ، والفرق بين ، توبة المسلم لا تقبل بخلاف الكافر : أن قتل المسلم حد ; وهو زنديق لا تعرف توبته ، والكافر كان على كفره فيعتبر إسلامه ، ولا يجعل سبه من جملة كفره ; لأنا لا نعطيهم العهد على ذلك ، ولا على قتلنا وأخذ أموالنا ، ولو قتل أحدنا قتلناه ، وإن كان من دينه استحلاله .

                                                                                                                قال سحنون : ولو بذل الحربي الجزية على إظهار السب للأنبياء - عليهم السلام - لم نقبله ، وحل لنا دمه ، فكذلك يحل دمه بالسب الطارئ ، ويسقط القتل عنه في السب بإسلامه ، ولا يسقط القتل بقتلنا : لأن حق الآدمي لا يسقط بالتوبة . قال مالك : إن قال : رداء النبي - عليه السلام - وسخ ، يريد عيبه ; قتل ، وإن عير بالفقر فقال : يعيرون بالفقر وقد رعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنم ; يؤدب ; لأنه عرض [ ص: 21 ] بذكره - عليه السلام - في غير موضعه ، ولا ينبغي إذا عوقب أهل الذنوب أن يقول : قد أخطأت الأنبياء قبلنا : وقال عمر بن عبد العزيز : انظروا لنا كاتبا يكون أبوه عربيا ، فقال كاتبه : قد كان أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - كافرا ، فقال له : جعلته - عليه السلام - مثلا ، لا تكتب لي أبدا .

                                                                                                                قال سحنون : إن خاصمته ، فأغضبته فقال : صلى الله على محمد ، فقال الطالب : لا صلى الله على من صلى عليه ، هل هو كمن شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الملائكة الذين يصلون عليه ؟ قال : لا إذا كان على وجه الغضب ( والضيق ; لأنه لم يكن مصرا على السب ، بل تكلم على وجه ) . قال أصبغ : لا يقتل ; لأنه إنما شتم الناس ، وقال الحارث : يقتل ، وسب الملائكة كسب الأنبياء ، وعن ابن القاسم في الكتابي أو المجوسي يقول : إن محمدا لم يرسل إلينا ، بل إنما أرسل إليكم ، وإنما نبينا موسى أو عيسى ، أولم يرسل ، أولم ينـزل عليه قرآن وإنما هو شيء يقوله ، ونحو هذا ; يقتل . قال مالك : إن ناديته فأجابك : لبيك اللهم لبيك ، جاهلا ، لا شيء عليه .

                                                                                                                قال سحنون : يكره قولك عند التعجب : صلى الله على النبي محمد ، ولا يصلي على النبي - عليه السلام - إلا على وجه التقرب .

                                                                                                                قال ابن القاسم : إن قال ديننا خير من دينكم ، إنما دينكم دين الحمير ، أو سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسول الله ، فقال : كذلك يعظكم الله ، فيه الأدب الوجيع ، والسجن الطويل ، وإن سب فقتلته غيظا وثبت أن قوله يوجب القتل ، فلا شيء عليك ، وإلا فعليك ديته وضرب مائة وحبس سنة ، وإن سب أحد معاوية أو غيره ، فإن نسبه للضلال والكفر ; قتل ، أو غير ذلك من [ ص: 22 ] مسافهة الناس نكل نكالا شديدا ، وإن قال : إن جبريل عليه السلام أخطأ في الوصي ، استتيب ، فإن تاب وإلا قتل ، وقيل : من كفر صحابيا أوجع ضربا ، وعن سحنون : إن كفر أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ، قتل ، وينكل في غيرهم . قال القاضي في الشفا : من سبه - عليه السلام أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله ، أو عرض به أو شبهه بشيء على وجه السب أو الازدراء أو التصغير لشأنه أو الغض منه ، يقتل كالساب . ويستوي التصريح والتلويح ، وكذلك من دعا عليه أو تمنى مضرة له ، وكذلك إن نسب لـه سجعا ، أو هجرا من القول ، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء ، وبشيء من العوارض البشرية المعهودة لديه . وهذا كله مجمع عليه من الصحابة وغيرهم ، وعن ابن كنانة : يخير الإمام في الساب المسلم في صلبه حيا ، أو قتله . ويقتل من قال : هو يتيم أبي طالب ، أو كان أسود . وإن قيل لرجل : لا وحق رسول الله ، فقال : فعل الله برسول الله كذا وكذا ، وذكر كلاما قبيحا ، فقيل له : ما تقول يا عدو الله ؟ فقال أشد من الأول ، وقال : أردت برسول الله العقرب ، فقال ابن أبي سليمان صاحب سحنون : يقتل ولا يقبل التأويل لصراحة اللفظ ، وأفتى ابن عتاب في عقاب عشار قال لرجل : أد واشك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : إن جهلت فقد جهل بالقتل ، وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه وصلبه لتسميته - عليه السلام - في أثناء المناظرة باليتيم ، وختن حيدرة ، وزعم أنه لم يكن قصدا .

                                                                                                                قال ابن المرابط : من قال إنه - عليه السلام - هرم ، يستتاب فإن تاب وإلا قتل ; لأنه نقص [ ص: 23 ] لا يجوز عليه في خاصته ; لأنه على بصيرة من أمره ، ويقتل من نقصه بسهو أو سحر أو هزيمة بعض جيوشه ، أو شدة من زمانه ، أو ميل لبعض نسائه ، ومن لم يقصد الازدراء ولا يعتقده في تكلمه بالسب أو اللعن أو التكذيب أو إضافة ما لا يجوز عليه أو نفي ما يجب له مما هو نقص في حقه ، وظهر عدم تعمده وقصد السب : إما لجهالة ، أو لضجر ، أو سكر ، أو قلة ضبط لسان وتهور في كلامه ، فإنه يقتل ولا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا غيرها وهو سليم العقل إلا للإكراه ، وبه أفتى الأندلسيون في علي بن حاتم في نفيه الزهد عنه - عليه السلام - وقاله ابن أبي زيد وابن سحنون وأبو الحسن القابسي ، ونظر إلى أن السكران إنما ينطق بما يعتقده صاحيا ، ولأنه حد لا يسقطه السكر كالقذف والقتل وجميع الحدود ، وأما القاصد لذلك المصرح فأشبه بالمرتد ، ويقوى الخلاف في استتابته ، أو مستترا فهو كالزنديق لا تسقط قتله التوبة ، ومن تنبأ وزعم أنه يوحى إليه . قال ابن القاسم : هو مرتد لكفره بقوله تعالى : ( وخاتم النبيين ) . قال أشهب : فإن كان ذميا استتيب إن أعلن ذلك ، فإن تاب وإلا قتل . وقال ابن سحنون : من شك في حرف مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الله ; فهو كافر .

                                                                                                                قال أحمد بن أبي سليمان : من قال إنه - عليه السلام - مات قبل أن يلتحي ، وأنه كان بتاهرت ، قتل ; لأن ذلك نفي له ، وتبديل صفته وموضعه كفر ، واللفظ المجمل الذي يمكن حمله على النبي - عليه السلام - وعلى غيره ، ويتردد في حال المطلق : هل أراده مكرها أم لا ؟ فقيل : يقتل رعاية لحماه - عليه السلام - وقيل : لا يقتل حماية للدم ، وقال سحنون فيمن أغضبه غريمه فقال له : صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا صلى الله على من صلى عليه ، ليس كالساب ; لأجل الغضب ، ولم يتضمن كلامه الشتم ; لأنه إنما شتم الناس دون [ ص: 24 ] الملائكة ، بل مخاطبه فقط . وقال الحارث بن مسكين وغيره : يقتل ، وتوقف القابسي في القائل : كل صاحب فندق قرنان ولو كان نبيا مرسلا ، وشده بالقيود حتى يستفهم البينة عما يدل على مقصده هل أراد أصحاب الفنادق الآن ، فليس فيهم نبي ، فيكون أمره أخف لكن ظاهر لفظه العموم ، وفي متقدمي الأنبياء - عليهم السلام - من اكتسب المال فوقع التردد . وقال ابن أبي زيد في القائل : لعن الله العرب ، ولعن بني إسرائيل ، ولعن الله بني آدم ، وقال : إنما أردت الظالمين منهم ، يؤدب باجتهاد السلطان .

                                                                                                                قال : وكذلك لعن الله من حرم المسكر وقال : لم أعلم من حرمه ، لا ، ومن قال : لا يبع حاضر لباد ، إن عذر بالجهل أدب الأدب الوجيع ، كأنه أراد من حرمه من الناس ، وكذلك يا ابن ألف خنزير - مع أنه يدخل في هذا العدد جماعة من أبائه - أساء ، فيزجر عنه ، وإن علم قصده الأنبياء قتل ، وقد يضيق القول لو قال لهاشمي : لعن الله بني هاشم ، ولمن قال له : أتتهمني ؟ فقال : الأنبياء يتهمون فكيف أنت ، قال أبو إسحاق : يقتل لبشاعة ظاهر اللفظ ، وتوقف ابن منظور لاحتمال أن يكون خبرا عمن اتهمهم من الكفار ، فأطال القاضي تصفيده واستحلفه بعد ذلك على تكذيب ما شهد به عليه وأطلقه ، فإن لم يذكر نقصا ولا عيبا ، بل ذكر بعض أحواله - عليه السلام - حجة ومثلا لنفسه وغيره لبعض حاله على طريق التأسي ، بل لرفع نفسه قصد الهزل ، كقوله : إن قيل في المكروه فقد قيل في النبي - عليه السلام - فإن أذنبت فقد أذنب ، وكيف أسلم من الألسنة ، ولم يسلم الأنبياء ، وقد صبرت كما صبر النبي ، وصبر النبي أكثر مني ، وكقول المتنبي : [ ص: 25 ]

                                                                                                                أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود

                                                                                                                وقول المعري :


                                                                                                                كنت موسى وافته بنت شعيب     غير أن ليس فيكما من فقير

                                                                                                                وآخر البيت شديد ، وداخل في الإزراء والتحقير ، وكذلك قوله :


                                                                                                                هو مثله في الفضل إلا أنه     لم يأته برسالة جبريل

                                                                                                                هو تشبيه بالنبي - عليه السلام - أو تفضيل عليه باستغنائه عن الرسالة ، وهو أشد ، وقول الآخر :

                                                                                                                فر من الخلد واستجار بنار     فصبر الله فؤاد رضوان

                                                                                                                وقول الآخر :

                                                                                                                كأن أبا بكر أبو بكر الرضا     وحسان حسان ، وأنت محمد

                                                                                                                . فهذه ونحوها إن درئ بها القتل ففيها الأدب والسجن بحسب شناعة المقالة وحال القائل في نفسه في كونه معروفا بذلك أو لا ، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا فأنكر الرشيد على أبي نواس [ ص: 26 ]

                                                                                                                فإن يك باقي سحر فرعون فيكم     فإن عصا موسى بكف خضيب

                                                                                                                وقال له : يا ابن اللخناء ، أنت المستهزئ بعصا موسى ؟ وأخرجه من عسكره ، وأنكروا عليه أيضا قوله :

                                                                                                                كيف لا يدنيك من أمل     من رسول الله من نفره

                                                                                                                لأن حقه عليه السلام أن يضاف إليه ولا يضاف ، وقال مالك إذا عير بالفقر فقال : قد رعى النبي عليه السلام ، يؤدب ، ومنع سحنون أن يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند التعجب ، بل على وجه التقرب ، وقال القابسي : إذا قال في قبيح الوجه : كأنه وجه نكير ، أو عبوس كأنه وجه مالك ، يؤدب ; لأنه قصد بالذم المخاطب ، وإن أراد به كمالك يغضب لغضب الله ، فهو أخف أدبا ، وكل ما طريقه الأدب إذا ندم قائله ، لم يؤدب ، وأما إن وقعت هذه الألفاظ حكاية عن الغير ، فإن كان للشهادة أو للنفي عن قائلها - لأنه ممن يخشى اتباعه - فحسن وإلا فلا يحكى ، فإن التفكه بالأعراض محرم ، ومن كان مولعا بذلك ورواية هجوه - عليه السلام - فيقتل ، ولا ينفعه نسبته إلى غيره ، وحكي الإجماع في تحريم هجوه - عليه السلام - وكتابته ، وقد أسقط المحرزون لدينهم من أحاديث المغازي والسير ذلك ، وقد كره تعليم النساء سورة يوسف ; لضعف معرفتهن ، ولا يروى من الأحاديث المحتاجة إلى التأويل إلا الصحيح ، بل كره مالك وغيره رواية ما ليس فيه عمل .

                                                                                                                ومشهور المذهب : قتل الساب حدا لا كفرا لا تسقطه التوبة . ولا تقبل توبة الزنديق على المشهور خلافا للشافعي ، ووافقنا ابن حنبل ، وعند ( ح ) خلاف . والساب المعتقد حله كافر اتفاقا . وكذلك إن كان السب كفرا . [ ص: 27 ] كالتكذيب ، ويقتل - وإن تاب - حدا ، فإن لم تتم الشهادة على الساب ، بل شهد الواحد أو لفيف الناس ، أو ثبت قوله إلا أنه يحتمل ، أو تاب على القول بقبول توبته ، فيعزر بقدر حاله وقوة الشهادة من التضييق في السجن وشدة القيود إلى غاية انتهاء طاقته بحيث لا يمنعه القيام لضرورته وصلاته ، فإن أثبت عداوة البينة وهي غير مبرزة ، وهو غير متهم ، فلا يعرض له ، وإلا اجتهد في تنكيله . ومن سب النبي بغير ما به كفر قتل ، ووقع لأصحابنا كلام وظواهر ظاهرها أن يجري الخلاف فيما به كفر ، أنه يقتل ، ومذهب ابن القاسم لا يقتل ، وإن أسلم قبل سقط القتل ; لأن الإسلام يجب ما قبله ، وقيل : لا لأن حق الآدمي لا يسقط بالتأويل بالتوبة ، واختلف في القائل : لقيت في مرضي ما لو قتلت أبا بكر لم أستوجبه ، قيل : يقتل ; لأنه نسب الله تعالى إلى الجور ، وقيل : يبالغ في تنكيله ; لأن مقصوده الشكوى لا السب .

                                                                                                                وأكثر قول مالك وأصحابه والأشعري عدم تكفير أهل الأهواء ، وإنما قال مالك إن تابوا وإلا قتلوا ; لأنه من الفساد في الأرض ، وجمهور السلف على تكفيرهم ، نظرا إلى أنهم إنما قصدوا التعظيم مع الاعتراف بالرسالة ، والتنقيص لازم لمذهبهم ، ولا خلاف في تكفير من نفى الربوبية أو الوحدانية ، أو عبد مع الله غيره ، أو هو دهري ، أو مانوي ، أو صابئ أو حلولي ، أو تناسخي ، أو من الروافض ، أو اعتقد أن الله غير حي أو قديم أو مصور أو صنع العالم غيره ، أو هو متولد من شيء ، أو ادعى مجالسة الله تعالى أو العروج إليه ومكالمته ، أو قال بقدم العالم أو بقائه أو شك في ذلك ، أو قال بنبوة علي ، أو جوز على الأنبياء الكذب ، وأنهم خاطبوا الخلق بالوعد والوعيد [ ص: 28 ] للمصلحة ، أو قال : في كل جنس من الحيوان نذير ، فإن فيه تجويز اتصافه بوصف الكلية ونحوها محتجا بقوله تعالى : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) أو قال بتخصيص الرسالة للعرب ، أو جوز اكتساب النبوة ، أو أنه يوحى إليه أو يصعد السماء ، أو يدخل الجنة أو يأكل من ثمارها ، أو قال بإبطال الرجم وغيره من ضروريات الدين ، أو كفر جميع الصحابة ; لأنه يؤدي إلى بطلان الدين ، أو يسعى للكنائس بزي النصارى ، أو قال بأن الصلاة طرفي النهار ، أو قال بسقوط العبادة عن بعض الأولياء ، أو أنكر مكة أو البيت أو المسجد الحرام ، أو قال : الاستقبال حق ولكن لغير هذه البقعة ، أو شك في ذلك - وهو ممن يظن به علم ذلك - أو يخالط المسلمين ، بخلاف حديث الإسلام ، أو جحد صفة الحج أو الصلوات ، أو جحد حرفا من القرآن أو زاده أو غيره ، أو قال ليس بمعجزة ، أو قال الثواب والعقاب معهودان ، وكذلك القائل الأئمة أفضل من الأنبياء .

                                                                                                                وأما من أنكر ما لا يتعلق بالدين ، كغزوة تبوك ، أو وجود أبي بكر وعمر ، لا يكفر إلا أن ينكر ذلك لتوهين نقل المسلمين أجمع ، فيكفر ، وأما إنكاره الإجماع المجرد الذي ليس طريقه التواتر عند التنازع ، فأكثر المسلمين من الفقهاء والنظار على تكفيره ; لمخالفة الإجماع الجامع للشرائط .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية