الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الضرب الرابع : ما اختص به - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل والإكرام ، فمنه أن زوجاته اللاتي توفي عنهن - رضي الله عنهن - محرمات على غيره أبدا ، وفيمن فارقها في الحياة أوجه . قال ابن أبي هريرة : يحرم ، وهو المنصوص في أحكام القرآن ، لقول الله تعالى : ( وأزواجه أمهاتهم )

                                                                                                                                                                        [ الأحزاب : 60 ] . والثاني ، يحل . والثالث : يحرم الدخول بها فقط . قال الشيخ أبو حامد : هو الصحيح .

                                                                                                                                                                        قلت : الأول أرجح . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فإن حرمنا ، ففي أمة يفارقها بالموت أو غيره بعد وطئها وجهان .

                                                                                                                                                                        ولو فرض أن بعض المخيرات اختارت الفراق ، ففي حلها لغيره طريقان . قال العراقيون : فيها الأوجه ، وقطعأبو يعقوب الأبيوردي وآخرون بالحل ، لتحصل فائدة التخيير ، وهو التمكن من زينة الدنيا ، وهذا اختيار الإمام ، والغزالي . ومنه ، أن أزواجه أمهات المؤمنين ، سواء من ماتت تحته - صلى الله عليه وسلم - ، ومن مات عنها وهي تحته ، وذلك في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن ، لا في النظر والخلوة ، ولا يقال : بناتهن أخوات المؤمنين ، ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات المؤمنين ، ولا إخوتهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم . وحكى أبو الفرج الزاز وجها أنه يطلق اسم الأخوة على بناتهن ، واسم الخئولة على إخوتهن وأخواتهن ، لثبوت حرمة الأمومة لهن ، وهذا ظاهر لفظ ( المختصر ) .

                                                                                                                                                                        قلت : قال البغوي : كن أمهات المؤمنين من الرجال دون النساء ، روي ذلك [ ص: 12 ] عن عائشة - رضي الله عنها - ، وهذا جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول ، أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال . وحكى الماوردي في تفسيره خلافا في كونهن أمهات المؤمنات ، وهو خارج على مذهب من أدخلهن في خطاب الرجال . قال البغوي : وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا للرجال والنساء جميعا . وقال الواحدي من أصحابنا : قال بعض أصحابنا : لا يجوز أن يقال : هو أبو المؤمنين ، لقول الله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم )

                                                                                                                                                                        [ الأحزاب : 40 ] قال : نص الشافعي على أنه يجوز أن يقال : هو أبو المؤمنين ، أي : في الحرمة . ومعنى الآية : ليس أحد من رجالكم ولد صلبه . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ومنه ، تفضيل زوجاته على سائر النساء ، وجعل ثوابهن وعقابهن مضاعفا ، ولا يحل أن يسألهن أحد شيئا إلا من وراء حجاب ، ويجوز أن يسأل غيرهن مشافهة .

                                                                                                                                                                        قلت : وأفضل زوجاته - صلى الله عليه وسلم - ، خديجة ، وعائشة - رضي الله عنهما - قال المتولي : واختلفوا أيتهما أفضل . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ومنه ، في غير النكاح ، أنه خاتم النبيين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وأمته خير الأمم ، وشريعته مؤبدة وناسخة لجميع الشرائع ، وكتابه معجز محفوظ عن التحريف والتبديل ، وأقيم بعده حجة على الناس ، ومعجزات سائر الأنبياء [ ص: 13 ] انقرضت ، ونصر بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت له الأرض مسجدا ، وترابها طهورا ، وأحلت له الغنائم ، ويشفع في أهل الكبائر .

                                                                                                                                                                        قلت : هذه العبارة ناقصة أو باطلة ، فإن شفاعته - صلى الله عليه وسلم - التي اختص بها ليست الشفاعة في مطلق أهل الكبائر ، فإن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القيامة شفاعات خمسا .

                                                                                                                                                                        أولاهن : الشفاعة العظمى في الفصل بين أهل الموقف حين يفزعون إليه بعد الأنبياء . كما ثبت في الحديث الصحيح ، حديث الشفاعة . والثانية : في جماعة ، فيدخلون الجنة بغير حساب . والثالثة : في ناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها . والرابعة : في ناس دخلوا النار ، فيخرجون . والخامسة : في رفع درجات ناس في الجنة ، وقد أوضحت ذلك ( كله ) في ( كتاب الإيمان ) من أول شرح صحيح مسلم - رحمه الله - ، والشفاعة المختصة به - صلى الله عليه وسلم - ، هي الأولى والثانية ، ويجوز أن تكون الثالثة والخامسة أيضا . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وبعث - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة ، وهو سيد ولد آدم ، وأول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع ومشفع ، وأول من يقرع باب الجنة ، وهو أكثر الأنبياء أتباعا ، وأمته معصومة لا تجتمع على ضلالة ، وصفوفهم كصفوف الملائكة . وكان لا ينام قلبه ، ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه ، وتطوعه بالصلاة قاعدا كتطوعه قائما وإن لم يكن عذر ، وفي حق غيره ثواب القاعد النصف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 14 ] قلت : هذا قد قاله صاحب ( التلخيص ) ، وتابعه البغوي ، وأنكره القفال ، وقال : لا يعرف هذا ، بل هو كغيره ، والمختار الأول ، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : " أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يصلي جالسا ، فقلت : حدثت يا رسول الله أنك قلت : صلاة الرجل قاعدا على نصف الصلاة " وأنت تصلي قاعدا : قال : " أجل ولكني لست كأحدكم " رواه مسلم في صحيحه . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ويخاطبه - صلى الله عليه وسلم - المصلي بقوله : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله ، ولا يخاطب سائر الناس ، ولا يجوز لأحد رفع صوته فوق صوته ، ولا أن يناديه من وراء الحجرات ، ولا أن يناديه باسمه فيقول : يا محمد ، بل يقول : يا رسول الله ، يا نبي الله ، ويجب على المصلي إذا دعاه ، أن يجيبه ، ولا تبطل صلاته . وحكى أبو العباس الروياني وجها أنه لا يجب ، وتبطل به الصلاة ، وكان يتبرك ويستشفى ببوله ودمه ، ومن زنا بحضرته أو استهان به ، كفر .

                                                                                                                                                                        قلت : في الزنا ، نظر . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وأولاد بناته ينسبون إليه ، وأولاد بنات غيره ، لا ينسبون إليه في الكفاءة وغيرها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 15 ] قلت : كذا قال صاحب ( التلخيص ) وأنكره القفال وقال : لا اختصاص في انتساب أولاد البنات . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وقال - صلى الله عليه وسلم - : كل " سبب ونسب منقطع يوم القيامة ، إلا سببي ونسبي " قيل : معناه : أن أمته ينتسبون إليه يوم القيامة ، وأمم سائر الأنبياء لا ينسبون إليهم . وقيل : ينتفع يومئذ بالنسبة إليه ، ولا ينتفع بسائر الأنساب . وقال - صلى الله عليه وسلم - " تسموا باسمي ، ولا تكتنوا بكنيتي " وقال الشافعي - رضي الله عنه - : ليس لأحد أن يكتني بأبي القاسم ، سواء كان اسمه محمدا ، أم لا ، ومنهم من حمله على كراهة الجمع بين الاسم والكنية ، وجوز الإفراد ، ويشبه أن يكون هذا أصح ، لأن الناس ما زالوا يكتنون به في جميع الأعصار من غير إنكار .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي تأوله الرافعي واستبدل به فيهما ، ضعيف ، وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب . أحدها : مذهب الشافعي ، وهو ما ذكره . والثاني : مذهب مالك : أنه يجوز التكني بأبي القاسم لمن اسمه محمد ولغيره . والثالث : يجوز لمن اسمه محمد دون غيره . ومن جوز مطلقا ، جعل النهي مختصا بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد يستدل له بما ثبت في الحديث من سبب النهي ، وأن اليهود تكنوا به ، وكانوا ينادون : يا أبا القاسم ، فإذا التفت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : لم نعنك ، إظهارا للإيذاء ، وقد زال ذلك [ ص: 16 ] المعنى ، وهذا المذهب أقرب ، وقد أوضحته مع ما يتعلق به في كتاب الأذكار وكتاب الأسماء . وما يتعلق بهذا الضرب ، أن شعره - صلى الله عليه وسلم - طاهر على المذهب وإن نجسنا شعر غيره ، وأن بوله ودمه وسائر فضلاته طاهرة على أحد الوجهين كما سبق ، وأن الهدية له حلال ، بخلاف غيره من الحكام وولاة الأمور من رعاياهم . وأعطي جوامع الكلم . ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ، ما ذكره صاحب ( التلخيص ) والقفال قالا : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ عن الدنيا عند تلقي الوحي ، ولا تسقط عنه الصلاة ولا غيرها . وفاته - صلى الله عليه وسلم - ركعتان بعد الظهر ، فقضاهما بعد العصر ، ثم واظب عليهما بعد العصر .

                                                                                                                                                                        وفي اختصاصه بهذه المداومة وجهان . أصحهما : الاختصاص . ومنها : أنه لا يجوز الجنون على الأنبياء ، بخلاف الإغماء . واختلفوا في جواز الاحتلام ، والأشهر امتناعه . ومنها ، أنه من رآه - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقد رآه حقا . وأن الشيطان لا يتمثل في صورته ، ولكن لا يعمل بما يسمعه الرائي منه في المنام مما يتعلق بالأحكام ، لعدم ضبط الرائي ، لا للشك في الرؤية ، فإن الخبر لا يقبل إلا من ضابط مكلف ، والنائم بخلافه .

                                                                                                                                                                        ومنها ، أن الأرض لا تأكل لحوم الأنبياء ، للحديث الصحيح في ذلك .

                                                                                                                                                                        [ ص: 17 ] ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث : " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد " . فالكذب عمدا عليه من الكبائر ، ولا يكفر فاعله على الصحيح وقول الجمهور . وقال الشيخ أبو محمد : هو كفر . ولنختم الباب بكلامين .

                                                                                                                                                                        أحدهما : قال إمام الحرمين : قال المحققون : ذكر الاختلاف في مسائل الخصائص خبط غير مفيد ، فإنه لا يتعلق به حكم ناجز تمس إليه حاجة ، وإنما يجري الخلاف فيما لا نجد بدا من إثبات حكم فيه ، فإن الأقيسة لا مجال لها ، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص ، وما لا نص فيه ، فتقدير اختيار فيه ، هجوم على الغيب من غير فائدة .

                                                                                                                                                                        والكلام الثاني : قال الصيمري : منع أبو علي بن خيران الكلام في الخصائص ، لأنه أمر انقضى ، فلا معنى للكلام فيه . وقال سائر أصحابنا : لا بأس به ، وهو الصحيح ، لما فيه من زيادة العلم ، فهذا كلام الأصحاب ، والصواب الجزم بجواز ذلك ، بل باستحبابه . بل لو قيل بوجوبه ، لم يكن بعيدا ، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتة في الحديث الصحيح فعمل به أخذا بأصل التأسي ، فوجب بيانها [ ص: 18 ] لتعرف فلا يعمل بها ، وأي فائدة أهم من هذه ؟ وأما ما يقع في ضمن الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم ، فقليل لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدرب ومعرفة الأدلة وتحقيق الشيء على ما هو عليه . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية