الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

كتاب الوديعة

وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار في هذا الكتاب هي في أحكام الوديعة :

[ ص: 648 ] فمنها : أنهم اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة ، إلا ما حكي عن عمر بن الخطاب . قال المالكيون : والدليل على أنها أمانة أن الله أمر برد الأمانات ولم يأمر بالإشهاد ، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن كذبه المودع ، قالوا : إلا أن يدفعها إليه ببينة ، فإنه لا يكون القول قوله ، قالوا : لأنه إذا دفعها إليه ببينة فكأنه ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها ، فيصدق في تلفها ولا يصدق على ردها ، هذا هو المشهور عن مالك وأصحابه .

وقد قيل عن ابن القاسم : إن القول قوله وإن دفعها إليه ببينة ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وهو القياس ; لأنه فرق بين التلف ودعوى الرد ، ويبعد أن تنتقض الأمانة وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه .

وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعتها إليه ، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد عند مالك وإلا ضمن ، يريد قول الله - عز وجل - : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) فإن أنكر القابض القبض فلا يصدق المستودع في الدفع عند مالك وأصحابه إلا ببينة .

وقد قيل إنه يتخرج من المذهب أنه يصدق في ذلك ، وسواء عند مالك أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى الذي دفعها أو لم يأمر .

وقال أبو حنيفة : إن كان ادعى دفعها إلى من أمره بدفعها فالقول قول المستودع مع يمينه ، فإن أقر المدفوع إليه بالوديعة ، ( أعني : إذا كان غير المودع ) وادعى التلف فلا يخلو أن يكون المستودع دفعها إلى أمانة ( وهو وكيل المستودع ) أو إلى ذمة .

فإن كان القابض أمينا فاختلف في ذلك قول ابن القاسم ، فقال مرة : يبرأ الدافع بتصديق القابض ، وتكون المصيبة من الآمر الوكيل بالقبض ، ومرة قال : لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع أو يأتي القابض بالمال .

وأما إن دفع إلى ذمة ، مثل أن يقول رجل للذي عنده الوديعة ادفعها إلي سلفا أو تسلفا في سلعة أو ما أشبه ذلك ، فإن كانت الذمة قائمة برئ الدافع في المذهب من غير خلاف ، وإن كانت الذمة خربة ، فقولان .

والسبب في هذا اختلافهم كله أن الأمانة تقوي دعوى المدعي حتى يكون القول قوله مع يمينه .

فمن شبه أمانة الذي أمره المودع أن يدفعها إليه ( أعني : الوكيل ) بأمانة المودع عنده ، قال : يكون القول قوله في دعواه التلف ، كدعوى المستودع عنده .

ومن رأى أن تلك الأمانة أضعف ، قال : لا يبرأ الدافع بتصديق القابض مع دعوى التلف .

ومن رأى المأمور بمنزلة الآمر قال : القول قول الدافع للمأمور ، كما كان القول قوله مع الآمر ، وهو مذهب أبي حنيفة .

ومن رأى أنه أضعف منه ، قال : الدافع ضامن إلا أن يحضر القابض المال .

وإذا أودعها بشرط الضمان ، فالجمهور على أنه لا يضمن ، وقال الغير : يضمن .

[ ص: 649 ] وبالجملة فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى ، ويختلفون في أشياء هل هي تعد أم ليس بتعد ؟

فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا أنفق الوديعة ، ثم رد مثلها ، أو أخرجها لنفقته ثم ردها ، فقال مالك : يسقط عنه الضمان بحالة مثل إذا ردها ، وقال أبو حنيفة : إن ردها بعينها قبل أن ينفقها لم يضمن ، وإن رد مثلها ضمن ، وقال عبد الملك والشافعي : يضمن في الوجهين جميعا .

فمن غلظ الأمر ضمنه إياها بتحريكها ونية استنفاقها ، ومن رخص لم يضمنها إذا أعاد مثلها .

ومنها : اختلافهم في السفر بها ، فقال مالك : ليس له أن يسافر بها إلا أن تعطى له في سفر ، وقال أبو حنيفة : له أن يسافر بها إذا كان الطريق آمنا ولم ينهه صاحب الوديعة .

ومنها أنه ليس للمودع عنده أن يودع الوديعة غيره من غير عذر ، فإن فعل ضمن ، وقال أبو حنيفة : إن أودعها عند من تلزمه نفقته لم يضمن ; لأنه شبهه بأهل بيته . وعند مالك له أن يستودع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم ، وهم تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة أو من أشبههم .

وبالجملة فعند الجميع أنه يجب عليه أن يحفظها مما جرت به عادة الناس أن تحفظ أموالهم ، فما كان بينا من ذلك أنه حفظ اتفق عليه ، وما كان غير بين أنه حفظ اختلف فيه ، مثل اختلافهم في المذهب فيمن جعل وديعة في جيبه فذهبت ، والأشهر أنه يضمن .

وعند ابن وهب أن من أودع وديعة في المسجد فجعلها على نعله فذهبت أنه لا ضمان عليه .

ويختلف في المذهب في ضمانها بالنسيان ، مثل أن ينساها في موضع أو أن ينسى من دفعها إليه ، أو يدعيها رجلان ، فقيل يحلفان وتقسم بينهما ، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما .

وإذا أراد السفر فله عند مالك أن يودعها عند ثقة من أهل البلد ولا ضمان عليه قدر على دفعها إلى الحاكم أو لم يقدر . واختلف في ذلك أصحاب الشافعي ، فمنهم من يقول : إن أودعها لغير الحاكم ضمن .

وقبول الوديعة عند مالك لا يجب في حال ، ومن العلماء من يرى أنه واجب إذا لم يجد المودع من يودعها عنده .

ولا أجر للمودع عنده على حفظ الوديعة ، وما تحتاج إليه من مسكن أو نفقة فعلى ربها .

واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور ، وهو فيمن أودع مالا فتعدى فيه واتجر به فربح فيه ، هل ذلك الربح حلال له أم لا ؟ فقال مالك ، والليث ، وأبو يوسف وجماعة : إذا رد المال طاب له الربح ، وإن كان غاصبا للمال فضلا عن أن يكون مستودعا عنده ، وقال أبو حنيفة ، وزفر ومحمد بن الحسن : يؤدي الأصل ويتصدق بالربح ، وقال قوم : لرب الوديعة الأصل والربح ، وقال قوم : هو مخير بين الأصل والربح ، وقال قوم : البيع الواقع في تلك التجارة فاسد ، وهؤلاء هم الذين أوجبوا التصدق بالربح إذا مات .

فمن اعتبر التصرف ، قال : الربح للمتصرف ، ومن اعتبر الأصل ، قال : الربح لصاحب المال . ولذلك لما أمر عمر - رضي الله عنه - ابنيه عبد الله وعبيد الله أن يصرفا المال الذي أسلفهما أبو موسى الأشعري من بيت المال ، فتجروا فيه فربحا ، قيل له : لو جعلته قراضا ، فأجاب إلى ذلك ; لأنه قد روي أنه قد حصل للعامل جزء ولصاحب المال جزء ، وأن ذلك عدل .

التالي السابق


الخدمات العلمية