الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              الأصل المعلوم في الأصول أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط فلا يصح أن يقع المسبب دونه ، ويستوي في ذلك شرط الكمال ، وشرط الإجزاء ، فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط ، [ كما لا يصح الحكم بالإجزاء مع فرض توقفه على شرط ] ، وهذا من كلامهم ظاهر ; فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه لم يكن شرطا فيه ، وقد فرض كذلك ، هذا خلف .

              وأيضا ; لو صح ذلك ، لكان متوقف الوقوع على شرطه غير متوقف الوقوع عليه معا ، وذلك محال .

              وأيضا ; فإن الشرط من حيث هو [ شرط ] يقتضي أنه لا يقع المشروط [ ص: 416 ] إلا عند حضوره فلو جاز وقوعه دونه ، لكان المشروط واقعا وغير واقع معا ، وذلك محال ، والأمر أوضح من الإطناب فيه .

              ولكنه ثبت في كلام طائفة من الأصوليين أصل آخر ، وعزي إلى مذهب مالك أن الحكم إذا حضر سببه وتوقف حصول مسببه على شرط فهل يصح وقوعه بدون شرطه أم لا ؟ قولان ; اعتبارا باقتضاء السبب أو بتخلف الشرط ، فمن راعى السبب وهو مقتض لمسببه ، غلب اقتضاءه ولم يراع توقفه على الشرط ، ومن راعى الشرط وأن توقف السبب عليه مانع من وقوع مسببه ; لم يراع حضور السبب بمجرده إلا أن يحضر الشرط فينتهض السبب عند ذلك في اقتضائه .

              وربما أطلق بعضهم جريان الخلاف في هذا الأصل مطلقا ، ويمثلون ذلك بأمثلة منها : إن حصول النصاب سبب في وجوب الزكاة ، ودوران الحول شرطه ، ويجوز تقديمها قبل الحول على الخلاف .

              واليمين سبب في الكفارة ، والحنث شرطها ، ويجوز تقديمها قبل الحنث على أحد القولين .

              وإنفاذ المقاتل سبب في القصاص أو الدية ، والزهوق شرط ، ويجوز العفو قبل الزهوق وبعد السبب ، ولم يحكوا في هذه الصورة خلافا .

              وفي المذهب : إذا جعل الرجل أمر امرأة يتزوجها بيد زوجة هي في ملكه ، [ ص: 417 ] إن شاءت طلقت أو أبقت ، فاستأذنها في التزويج فأذنت له ، فلما تزوجها أرادت هذه أن تطلق عليه ، وقال مالك : ليس لها ذلك ; بناء على أنها قد أسقطت بعد جريان السبب وهو التمليك ، وإن كان قبل حصول الشرط وهو التزوج .

              وإذا أذن الورثة عند المرض المخوف في التصرف في أكثر من الثلث جاز ، مع أنهم لا يتقرر ملكهم إلا بعد الموت ، فالمرض هو السبب لتملكهم ، والموت شرط فينفذ إذنهم عند مالك ـ خلافا لأبي حنيفة والشافعي ـ ، وإن لم يقع الشرط ، ومن الناس من قال بإنفاذ ; إذنهم في الصحة والمرض ; فالسبب على رأي هؤلاء هو القرابة ، ولا بد لهم من القول بأن الموت شرط .

              وفي المذهب : من جامع فالتذ ولم ينزل فاغتسل ثم أنزل ، ففي وجوب الغسل عليه ثانية قولان ، ونفي الوجوب بناء على أن سبب الغسل انفصال الماء عن مقره ، وقد اغتسل فلا يغتسل له مرة أخرى ، هذه حجة سحنون وابن المواز ، فالسبب هو الانفصال ، والخروج شرط ولم يعتبر ، إلى كثير من المسائل تدار على هذا الأصل .

              وهو ظاهر المعارضة للأصل الأول ; فإن الأول يقضي بأنه لا يصح وقوع المشروط بدون شرطه بإطلاق ، والثاني يقضي بأنه صحيح عند بعض العلماء ، وربما صح باتفاق كما في مسألة العفو قبل الزهوق ، ولا يمكن أن يصح الأصلان معا بإطلاق ، والمعلوم صحة الأصل الأول ; فلا بد من النظر [ ص: 418 ] في كلامهم في الأصل الثاني .

              أما أولا : فنفس التناقض بين الأصلين كاف في عدم صحته عند العلم بصحة الأصل الأول .

              وأما ثانيا : فلا نسلم أن تلك المسائل جارية على عدم اعتبار الشرط ; فإنا نقول :

              من أجاز تقديم الزكاة قبل [ حلول ] الحول مطلقا من غير أهل مذهبنا فبناء على أنه ليس بشرط في الوجوب ، وإنما هو شرط في الانحتام ، فالحول كله كأنه وقت ـ عند هذا القائل ـ لوجوب الزكاة موسع ، ويتحتم في آخر الوقت كسائر أوقات التوسعة ، وأما الإخراج قبل الحول بيسير ـ على مذهبنا ـ فبناء على أن ما قرب من الشيء فحكمه حكمه ، فشرط الوجوب حاصل .

              وكذلك القول في شرط الحنث : من أجاز تقديم الكفارة عليه فهو عنده شرط في الانحتام من غير تخيير لا شرط في وجوبها .

              وأما مسألة الزهوق فهو شرط في وجوب القصاص أو الدية ، لا أنه شرط في صحة العفو ، وهذا متفق عليه ; إذ العفو بعده لا يمكن فلا بد من وقوعه قبله إن وقع ، ولا يصح أن يكون شرطا ; إذ ذاك في صحته ، ووجه صحته [ ص: 419 ] أنه حق من حقوق المجروح التي لا تتعلق بالمال ; فجاز عفوه عنه مطلقا كما يجوز عفوه عن سائر الجراح ، وعن عرضه إذا قذف ، وما أشبه ذلك ، والدليل على أن مدرك حكم العفو ليس ما قالوه ، أنه لا يصح للمجروح ولا لأوليائه استيفاء القصاص أو أخذ دية النفس كاملة قبل الزهوق باتفاق ، ولو كان كما قالوه لكان في هذه المسألة قولان .

              وأما مسألة تمليك المرأة ; فإنها لما أسقطت حق نفسها فيما شرطت على الزوج قبل تزوجه ، لم يبق لها ما تتعلق به بعده ; لأن ما كانت تملكه بالتمليك قد أسقطت حقها فيه بعد ما جرى سببه ، فلم يكن لتزوجه تأثير فيما تقدم من الإسقاط ، وهو فقه ظاهر .

              ومسألة إذن الورثة بينة المعنى ; فإن الموت سبب في صحة الملك لا في تعلقه ، والمرض سبب في تعلق حق الورثة بمال الموروث لا في تملكهم له ، فهما سببان ، كل واحد منها يقتضي حكما لا يقتضيه الآخر ، فمن حيث [ ص: 420 ] كان المرض سببا لتعلق الحق ، وإن لم يكن ملكا ، كان إذنهم واقعا في محله ; لأنهم لما تعلق حقهم بمال الموروث ، صارت لهم فيه شبهة ملك ، فإذا أسقطوا حقهم فيه لم يكن لهم بعد ذلك مطالبة ; لأنهم صاروا ـ في الحال الذي أنفذوا تصرف المريض فيه حالة المرض ـ كالأجانب فإذا حصل الموت لم يكن لهم فيه حق ; كالثلث . و [ قول ] القائل بمنع الإنفاذ يصح مع القول بأن الموت شرط ; لأنهم أذنوا قبل التمليك ، وقبل حصول الشرط ، فلا ينفذ كسائر الشروط مع مشروطاتها .

              وأما مسألة الإنزال ; فيصح بناؤها على أنه ليس بشرط في هذا الغسل ، [ ص: 421 ] أو لأنه لا حكم له ; لأنه إنزال من غير اقتران لذة .

              فعلى الجملة هذه الأشياء لم يتعين فيها التخريج على عدم اعتبار الشرط .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية