الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              [ ص: 1 ] السراج الوهاج

                                                                                                                              من كشف مطالب

                                                                                                                              صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              تأليف

                                                                                                                              الشيخ العلامة أبي الطيب صديق بن حسن خان الحسيني القنوجي البخاري

                                                                                                                              وهو شرح على ملخص صحيح مسلم للحافظ المنذري

                                                                                                                              تغمدهما الله بواسع رحمته ورضوانه

                                                                                                                              الجزء الأول

                                                                                                                              حققه وعني بطبعه خادم العلم

                                                                                                                              عبد الله بن إبراهيم الأنصاري

                                                                                                                              طبع هذا الكتاب على نفقة الشئون الدينية بدولة قطر

                                                                                                                              [ ص: 2 ] [ ص: 3 ] [ ص: 4 ] [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                              الحمد لله الذي جلت نعمه على العباد عن الإحصاء وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ووفقهم ومن عليهم بالاعتناء بسنة حبيبه وعبده ورسوله المختار، وخص هذه الأمة المرحومة - كثر الله سوادها - بعلم الإسناد والآثار، الذي لم يشرك فيه أحدا من الأجيال الخالية، والأمم البالية على تكرر العصور والأدهار، ونصب لحفظ هذه السنة المكرمة الشريفة المطهرة الطيبة خواص من عصابة الحفاظ ونقاد الأخبار، وجعلهم (ذابين) عنها في جميع الأعصار والأقطار، باذلين وسعهم ومنفقين سعيهم في تبيين الصحة من طرقها بصحيح الإتقان وسليم الأفكار، حفظا لها على الأمة الأمية على ممر الدهور والأزمان والأعصار، مستفرغين جهدهم في نفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عنها مستمرين على ذلك في غالب الأمصار، ولا يزال على القيام بذلك بحمد الله وإحسانه برك الإيمان في البلدان الشاسعة والمدن الواسعة إلى انقضاء هذه الدار والإقبال على دار القرار، وإن قلوا وخلت القرى والبلاد منهم وقربوا من النفاد والإمرار، أحمده أبلغ حمد على نعمة الإسلام في الإعلان والإسرار، وعلى أن جعلنا من أمة خيرة الخيرة وصفوة الصفوة ونخبة [ ص: 6 ] النخبة من المصطفين الأخيار، محمد عبده ورسوله وخليله خاتم الأنبياء وأول شافع ومشفع يوم الجزاء في زمرة الرسل الأبرار، صاحب لواء الحمد والمقام المحمود المؤيد بالمعجزة الباهرة المستمرة على تكرر الشهور والأعوام في الصغار والكبار، أعني بها القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلبه ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين أي بشارة وإنذار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان في جميع أقواله وأفعاله وسائر أحواله مخلصين في ذلك لله الواحد القهار، ما سح سحاب بالأمطار وطار طير إلى الأوكار.

                                                                                                                              وبعد فإن الاشتغال بالعلم من أفضل القرب والطاعة، وأهم أنواع الخير وآكد العبادة لمن له إليه الاستطاعة، وقد تظاهر على ذلك جمل من الآيات والأحاديث الصحيحة، وأقاويل السلف الفصيحة، وقد اعتني بذكرها وجمعها جمع جم من أهل العلم والمعرفة، فأغنونا عن ضبطها والصفة.

                                                                                                                              ومن أفضل أنواعه معرفة علم الحديث النبوي بأنواعه ومعرفة أسانيده، وصحاح كتبه وسننه ومسانيده، ودليل ذلك أن ملتنا هذه مبنية على الكتاب والسنة، وعليهما مدار جميع الأحكام لأهل الجماعة والسنة، وقد اتفق أهل العلم بالدين على أن من شرط المجتهد والمجدد من القضاة والمفتين أن يكون عالما بهما، سالكا مسلكهما، ماشيا على منطوقهما، فثبت أن الاشتغال بعلم القرآن والحديث الذي هو تلو الفرقان من أجل العلوم وأفضلها، وأهم الأعمال الصالحة [ ص: 7 ] وأكملها، وكيف لا يكون كذلك وهو يشتمل على بيان سير خير البرية في العادات والعبادات والمعاملات والأوليات والأوساط والأخرويات المنورة السنية، ولقد كان غالب شغل أهل العلم في العصور الخالية بالحديث الشريف خاصة، حتى كان يجتمع في مجلس الحديث من طلبة العلم والدين الخالص ألوف، ومن قبائل العرب والعجم أنواع وصنوف، فتناقص ذلك بحدوث البدع والمنكرات، بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرات، وضعفت الهمم وتقاعدت القوى فلم يبق منهم عين ولا أثر إلا ما في دواوين الإسلام من تلك الآثار البالية، وأحوال رجالها وقليل ما هم وقليل من عبادي الشكور والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البلايا والرزايا، التي في الجلوات والخبايا، وقد ورد في فضل إحياء السنن الميتة أحاديث كثيرة يحتويها كتب الإسلام، وصحف الفحول الأعلام، فينبغي لمن يريد النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة والمسلمين ولنفسه خاصة أن يعتني بعلم الحديث ويحرص عليه ويحرض غيره عليه، ويتمسك به في كل ما يأتي به ويذر وما إليه.

                                                                                                                              وقد قال قائل: إن من جمع أدوات الحديث استنار قلبه، وانشرح صدره، واستخرج كنوزه، واستفهم رموزه، وهو جدير بذلك لأنه كلام من أعطي جوامع الكلم، وأتانا بملاك الأمور والحكم. وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقا (الصحيحان) للإمامين القدوتين، [ ص: 8 ] والهمامين الأسوتين، أميري المؤمنين، وخليفتي سيد المرسلين: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، «رضي الله عنهما» وهما كتابان قديمان، مباركان: عليهما ولهما وفيهما. لم يوجد لهما نظير في المؤلفات الإسلامية، والمجموعات والمصنفات الإيمانية. واتفق جمهور أهل العلم إلا من لا يعتد به بتلقيهما بالقبول على العلات، وتقدمهما بعد القرآن الكريم على جميع المصنفات والمؤلفات، وكان ينبغي الاعتناء بشرحهما واستخراج دقائق العلوم الحقة من متونهما، وقد قضى الوطر عن صحيح البخاري الحافظ الحجة هادي الناس إلى المحجة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني في «فتح الباري» وجمعت في شرح تجريده جملا مستكثرة، مشتملة على نفائس من العلوم بعبارة مستحسنة مختصرة، مسفرة ضاحكة مستبشرة، وسميته بالاسم التاريخي «عون الباري لحل أدلة البخاري» ، وقد طبع بمصر القاهرة على هامش «نيل الأوطار من شرح منتقى الأخبار» ، وأما صحيح مسلم فقد كنت أطلب له أيضا تجريدة لأشرحه ليكون لي «شرحان» ، على تجريدي الصحيحين، وتلخيصي هذين السفرين الكريمين، أتوسل بهما إلى عفو الذنوب جميعا إلى حضرة الإله جل مجده، وشفاعة الرسول العريض الجاه، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم أموت ويوم أبعث حيا، حتى من الله علي بتلخيصه) للحافظ عبد العظيم المنذري بعناية الشيخ المحدث المتبع [ ص: 9 ] الصالح العالم «محمد بن عبد العزيز الجعفري» من أهل مجهلي شهر القاضي ببلدة «بهوبال» المحمية حالا حياه الله وبياه، وعن المكاره كلها وقاه، فسجدت لله شكرا على تيسير ذلك، وشمرت عن ساق الجد لشرحه وتحرير ما هنالك، شرحا وسطا متوسطا بين الوسط والاختصار، وتحريرا بالغا مبلغا لطالب الحق إلى نيل الأوطار من فقه الأخبار، ومنتقى الأفكار، مستمدا فيه من شرح الإمام النووي رحمه الله تعالى وغيره من كتب سنن الإسلام، ودواوين الهداية وعلوم محققي العلماء الأخيار، هذا وقد حصل التساهل البالغ في نقل الإجماعات، وصار من لا يحب له من مذاهب أهل العلم يظن أن ما اتفق عليه أهل مذهبه أو أهل قطره هو إجماع، وهذه مفسدة عظيمة فيأتي هذا الناقل بمجرد الدعوى، مما تعم به البلوى، ذاهلا عن لزوم الخطر العظيم على عباد الله تعالى من هذا، أو النقل الذي لم يكن على طريق التثبيت والورع.

                                                                                                                              وأما أهل المذاهب الأربعة فقد صاروا يعدون ما اتفق عليه بينهم مجمعا عليه، ولاسيما المتأخر عصره منهم. كالنووي في شرحه «لمسلم» ومن فعل كفعله. فليس هذا هو الإجماع الذي تكلم العلماء بحجيته، فإن خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. هم كانوا [ ص: 10 ] قبل ظهور هذه المذاهب، ثم كان في عصر كل واحد من الأئمة الأربعة من أكابر أهل العلم الناهضين بالاجتهاد من لا يأتي عليه الحصر وهكذا جاء بعد عصرهم إلى هذه الغاية، وهذا يعرفه كل عارف منصف.

                                                                                                                              ولكن الإنصاف عقبة كئود، ولا يجوزها إلا من فتح الله تعالى له أبواب الحق وسهل عليه الدخول منها.

                                                                                                                              قال العلامة الشوكاني في «وبل الغمام حاشية شفاء الأوام» :

                                                                                                                              إن الإجماعات التي يحكونها في المصنفات ليست إلا باعتبار أن الحاكي لم يعلم بوقوع خلاف في المسألة. وعدم علمه بالوقوع لا يستلزم العدم، غاية ما هناك، إن حصل له ظن بالإجماع. ومجرد ظن فرد من الأفراد لا يصلح أن يكون مستندا للإجماع ولا طريقا من طرقه. ومن قال بحجية الإجماع لا يقول بحجية هذا، فهو مجرد ظن لفرد من أفراد الأمة. ولم يتعبد الله أحدا من خلقه بمثل ذلك، فإنه لو قال المطلع: لا أعلم في هذه المسألة دليلا من السنة أو دليلا من القرآن لم يقل عاقل فضلا عن عالم: إن هذه المقالة حجة. إذا تقرر هذا هان عليك الخطب عند سماع حكاية «الإجماع» لأنه ليس بالإجماع الذي اختلفت الأمة في كونه حجة أم لا؟ مع أنه قد ذهب الجمهور من أهل الأصول إلى أن الإجماع لا تقبل فيه أخبار الآحاد كما صرح بذلك القاضي في «التقريب» والغزالي في كتبه إلى آخر ما قال.

                                                                                                                              وبهذا ظهر لك أن ما أورده من حكايات «الإجماع، في شرحي هذا على «المختصر» عن غيري، كالنووي وغيره ليس الغرض به إلا مجرد [ ص: 11 ] الإلزام للقائل بحجية الإجماع ومحض النقل له بل التعويل عليه.

                                                                                                                              فليعلم ذلك. وقد أوردت حجج هذه المسألة في كتابي «حصول المأمول من علم الأصول» وأوردها الوالدان الصالحان في «الإقليل والطريقة المثلى» فمن رام انثلاج خاطره فليرجع إليها وإلى «دليل الطالب» وغيره من مؤلفاتنا. وسميت هذا الشرح بالاسم التاريخي (السراج الوهاج، من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج) ! ولولا ضعف البنية، وقصر الهمة، وقلة الرغبة، لقلة الطلبة للمطولات، لبسطته فبلغت به ما يزيد على المجلدات. لكني اقتصرت فيه على التوسط الذي لا يخل ولا يمل.

                                                                                                                              وخير الكلام ما قل ودل. وأضربت فيه عما ذكره الإمام النووي رحمه الله تعالى في مقدمة شرحه «لصحيح مسلم» ، وفي مطاوي فحاويه مما يتعلق برجال الإسناد وتقسيم الحديث إلى أقسام، وما إليها قبل الشروع في الشرح في فصول متتابعة، فطويت الكشح عن ذلك كله، إلا ما لا بد منه في معرفة مقدار هذا المتن الشريف. فإني سأذكره في مقدمة هذا الشرح، إن شاء الله تعالى. ورأيت الحافظ المنذري «رح» قد ترك في تلخيصه هذا: إيراد ما أورده «مسلم» في أول كتابه. فتركت ذكره أيضا خوفا من الإطالة، وقناعة على شروح مسلم، لاسيما شرح النووي «رح» المتداول في هذا الزمان، فإنه يكفي في ذلك عليه الحوالة.

                                                                                                                              وأحاديث «صحيح مسلم» هذا كلها صحيحة متواترة عنه رضي الله عنه، ثم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد من أهل العلم فيها كلام ولا مقالة، فطالب الحق، والعامل بالحديث، تكفيه المعرفة بمعاني الحديث ومبانيه.

                                                                                                                              والعلم بالأحكام والمسائل التي فيه. من دون بحث عن رجال أسانيده.

                                                                                                                              [ ص: 12 ] وفحص عن أحوال مسانيده. ومن أراد الوقوف على كل ماله وما عليه، فعليه الرجوع إلى شروح الأصول والأمهات الموصلة له إليه.

                                                                                                                              وقد من سبحانه وتعالى على عباده في هذا الزمان الحاضر بتيسير مواد علم الحديث، وعلى أصوله، وعلم فقهه، وما يمده في ذلك كله، وخص بنشر هذه كلها بعض عباده المؤمنين في أقطار أرض اليمن وغيرها.

                                                                                                                              والله يختص برحمته من يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

                                                                                                                              هذا وجعلت هذا الشرح ممزوجا بمتون الأحاديث ليكون أسهل في المطالعة وأيسر في الأخذ، وأنفع للناظر فيه، وأهدى إلى طريق علم المواريث.

                                                                                                                              والله أسأل أن يجعل خواتيم أعمالنا بالخير، ويصوننا وجميع أخلافنا وأحبابنا عن المساءة والضير، وأن ينفعنا ومن يقرأ أو يسمع في هذا الكتاب، ولا يجعل شيئا من ذلك فتنة لنا يوم الحساب، إنه قريب مجيب، عليه توكلت وإليه أنيب.

                                                                                                                              و كان بداية تحرير هذا الشرح في منتصف شهر جمادى الآخرة من شهور 1298 السنة الهجرية. في «بهوبال» المحمية في عهد رئيستها العالية العلية تاج الهند المكلل «نواب شاهجان بيكم» ، أهل بيت الشارح حفظها الله وسلم، حين طعنت في سن الخمسين وكان الله بي حفيا، ووهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، ولم أكن بدعاء ربي شقيا.

                                                                                                                              فرجوت الله سبحانه إتمام هذا المرام، على أحسن النظام، وتوفيق قبوله بين علماء الإسلام، ونفعه لي في القبر وفي يوم القيام، وحفظه إياي من شرور الأعداء الأوغاد ومفاسد اللئام، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير.

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              الخدمات العلمية