الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                660 [ ص: 165 ] 54 - باب

                                إمامة العبد والمولى

                                وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف .

                                وولد البغي والأعرابي والغلام الذي لم يحتلم

                                لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله ) .

                                ولا يمنع العبد من الجماعة بغير علة

                                التالي السابق


                                أشار البخاري - رحمه الله - بهذا التبويب إلى مسائل :

                                إحداها :

                                إمامة العبد والمولى .

                                ومراده بالعبد : الرقيق القن ، وبالمولى : العتيق ، الذي عليه ولاء لمعتقه .

                                وما ذكره من إمامة ذكوان لعائشة ، فروى وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبي بكر بن أبي مليكة ، أن عائشة أعتقت غلاما لها عن دبر ، فكان يؤمها في المصحف في رمضان .

                                ففي هذه الرواية : أنه كان مدبرا .

                                وقد روي من غير وجه ، عن عائشة ، أنها صلت خلف مملوك .

                                وروى أيوب ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، أنه كان يؤمها عبد لها في المصحف .

                                [ ص: 166 ] خرجه الأثرم .

                                ورواه عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه أيضا .

                                وذكر الإمام أحمد ، أنه أصح من حديث ابن أبي مليكة ؛ لأن هشام بن عروة لم يسمعه من ابن أبي مليكة ، إنما بلغه عنه .

                                قال أحمد : أبو معاوية ، عن هشام ، قال : نبئت عن ابن أبي مليكة ، فذكره .

                                قلت : رواه شعيب بن أبي حمزة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، لم يذكر ابن أبي مليكة .

                                خرجه البيهقي .

                                وكذا رواه مالك في ( الموطأ ) عن هشام ، عن أبيه .

                                وروى أبو نعيم في ( كتاب الصلاة ) : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ابن أبي مليكة ، أن عائشة كان يدخل عليها أشراف قريش ، فيؤمهم غلامها ذكوان .

                                والظاهر : أن حماد بن سلمة إنما رواه عن هشام ، عن ابن أبي مليكة .

                                ورواه الشافعي عن عبد المجيد بن أبي رواد ، عن ابن جريج : أخبرني ابن أبي مليكة ، أنهم كانوا يأتون عائشة ، أم المؤمنين بأعلى الوادي - هو وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير - فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة ، وأبو عمرو غلامها حينئذ لم يعتق ، وكان إمام بني محمد بن أبي بكر وعروة .

                                قال أبو نعيم : وحدثنا زهير ، عن داود بن أبي هند ، حدثني أبو نضرة ، عن [ ص: 167 ] أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري ، قال : أتاني نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهم : أبو ذر وحذيفة وابن مسعود ، فحضرت الصلاة ، فقدموني وأنا مملوك ، فصليت بهم .

                                قال : وحدثنا حسن الحسنائي ، ثنا زياد النميري ، قال : سألت أنس بن مالك ، فقلت : العبد ليس بدينه بأس ، يؤم القوم ؟ قال : وما بأس بذلك .

                                وفي ( صحيح مسلم ) أن عمر بن الخطاب قال لنافع بن عبد الحارث - وكان عمر استخلفه على مكة - : من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال : ابن أبزى مولى لنا ، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إنه قارئ لكتاب الله ، عالم بالفرائض ، فقال عمر : أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) .

                                وممن رخص في إمامة العبد : الشعبي والنخعي والحسن والحكم والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق .

                                وكره إمامة العبد جماعة ، منهم : أبو مجلز .

                                وقال الضحاك : لا يؤم العبد القوم وفيهم حر .

                                وقال مالك : لا يؤمهم ، إلا أن يكون العبد قارئا ومن خلفه أعراب لا يقرأون .

                                وفي ( تهذيب المدونة ) : لا يؤم العبد في الحضر في مساجد القبائل ، وجائز [ ص: 168 ] أن يؤم في قيام رمضان وفي الفرائض في السفر ، إن كان أقرأهم ، من غير أن يتخذ إماما راتبا .

                                وقال أصحابنا : لا تكره إمامة العبد ، والحر أولى منه .

                                المسألة الثانية :

                                إمامة ولد البغي - وهو ولد الزنا .

                                وقد اختلف في إمامته :

                                فرخص فيها طائفة ، منهم : عطاء والحسن والشعبي والنخعي والزهري وسليمان بن موسى وعمرو بن دينار والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق .

                                ومنهم من شرط سلامة دينه ، وهو قول أحمد .

                                وكره ذلك آخرون ، منهم : مجاهد .

                                وروي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه نهى رجلا كان يؤم بالعقيق لا يعرف له أب .

                                وقال مالك : أكره أن يتخذ إماما راتبا .

                                وقال أبو حنيفة : غيره أحب إلينا منه .

                                وقال الشافعي : أكره أن ينصب إماما من لا يعرف أبوه ، ومن صلى خلفه أجزأه .

                                وهؤلاء جعلوا النسب معتبرا في إمامة الصلاة ، فيكره أن يرتب للإمامة من لا نسب له ، كما يعتبر في الإمامة العظمى ، فلا يصح أن ينصب إماما من لا نسب له .

                                [ ص: 169 ] وفي هذا نظر ؛ فإن أكثرهم رخصوا في إمامة العبد والمولى ، مع أنه لا نسب لهما في العرب .

                                المسألة الثالثة :

                                إمامة الأعرابي ، وهو من لم يهاجر إلى الأمصار من أهل البوادي .

                                وقد اختلف في إمامة الأعرابي :

                                فقالت طائفة : لا بأس بها إذا أقام الصلاة .

                                وعنه ، قال : العبد إذا فقه أحب إلي منه .

                                ورخص فيه الثوري والشافعي وأحمد - في المشهور عنه - وإسحاق .

                                وروى وكيع في ( كتابه ) عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من طيئ ، أن ابن مسعود حج ، فصلى خلف أعرابي .

                                وكره الائتمام بالأعرابي طائفة ، منهم : أبو مجلز والشعبي والحسن وعطاء ومالك ، وهو رواية عن أحمد .

                                وروى وكيع ، عن الربيع بن صبيح ، عن ابن سيرين ، قال : خرجنا مع عبيد الله بن معمر ، ومعنا حميد بن عبد الرحمن وأناس من وجوه الفقهاء ، فمررنا بماء فحضرت الصلاة ، فأذن أعرابي وأقام ، قال : فتقدم حميد بن عبد الرحمن ، قال : من كان من أهل البلد فليتم الصلاة ، وكره أن يؤم الأعرابي .

                                وهذا يدل على أنهم رأوا أن من كان أولى بالإمامة فإنه يقدم على الإمام [ ص: 170 ] الراتب بغير إذنه ، وقد سبق الكلام عليه .

                                وقال مالك : الأعرابي لا يؤمهم وإن كان أقرأهم .

                                وقال أحمد : لا يؤم الحضري ، ولا في المصر ، إلا أن يكون قد علم وعرفه .

                                وقال - أيضا - : إذا كان قد تعلم القرآن ودخل القرآن ، ولم يكن جافيا .

                                وروى أشعث ، عن الحسن في مهاجري صلى خلف أعرابي ؟ قال : إذا صلى أعاد تلك الصلاة .

                                وقد خرج ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا : ( لا يؤم أعرابي مهاجرا ) - في حديث طويل ، وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى .

                                المسألة الرابعة :

                                إمامة الغلام الذي لم يحتلم .

                                وفيها أقوال :

                                أحدها : أنها جائزة في الفرض وغيره ، وهو قول الشافعي وإسحاق وأبي ثور .

                                وخرجه طائفة من أصحابنا رواية عن الإمام أحمد من صحة اقتداء المفترض بالمتنفل ، على رواية عنه ، وفيه نظر ؛ فإن المتنفل أهل للإمامة في الجملة بخلاف الصبي .

                                وحكاه ابن المنذر عن الحسن .

                                وروى حرب بإسناده ، عن الزهري ، قال : لم يزل الغلمان يصلون بالناس [ ص: 171 ] إذا عقلوا الصلاة وقرءوا في رمضان ، وإن لم يحتلموا .

                                وروى أبو نعيم في ( كتاب الصلاة ) : حدثنا سفيان عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : لا بأس أن يؤم الغلام قبل أن يحتلم .

                                وروى وكيع بإسناده ، عن الأشعث بن قيس ، أنه قدم غلاما ، فقيل له ، فقال : إني لم أقدمه ، إنما قدمت القرآن .

                                ولعل الغلام هاهنا أريد به العبد ، لا الصبي .

                                والقول الثاني : أنه لا يؤم الصبي حتى يحتلم ، روي ذلك عن ابن عباس ، خرجه عنه بإسناد فيه مقال .

                                وخرجه الأثرم - أيضا - بإسناد منقطع عن ابن مسعود ، قال : لا يصلي خلف الغلام حتى تجب عليه الحدود .

                                وقال النخعي : كانوا يكرهون أن يؤم الغلام قبل أن يحتلم .

                                قال ابن المنذر : كره إمامة من لم يبلغ : عطاء والشعبي ومجاهد ومالك والثوري وأصحاب الرأي .

                                وقد روينا عن ابن عباس ، قال : لا يؤم الغلام حتى يحتلم .

                                وكرهه - أيضا - الضحاك .

                                والقول الثالث : يؤمهم في النفل دون الفرض ، روي ذلك عن الحسن ، ذكره وكيع ، عن الربيع بن صبيح ، عنه ، قال : لا بأس أن يؤمهم في رمضان إذا أحسن الصلاة قبل أن يحتلم ، وهو رواية عن أحمد .

                                والقول الرابع : حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي ، قال : لا يؤم الغلام في [ ص: 172 ] الصلاة المكتوبة حتى يحتلم ، إلا أن يكون ليس معهم من القرآن شيء ، فإنه يؤمهم المراهق .

                                وعن الزهري ، قال : إن اضطروا إليه أمهم .

                                وقد أومأ أحمد إلى هذا القول ؛ فإنه قال في رواية أبي طالب : لا يصلي بهم حتى يحتلم ، لا في المكتوبة ولا في التطوع ، قيل له : فحديث عمرو بن سلمة ، أليس أم بهم وهو غلام ؟ فقال : لعله لم يكن يحسن يقرأ غيره .

                                ونقل عنه جعفر بن محمد في حديث عمرو بن سلمة ، قال : كان هذا في أول الإسلام من ضرورة ، فأما اليوم فلا .

                                وكذلك نقل عنه أبو داود ، قال : لعله كان في بدء الإسلام .

                                وهذا يشير إلى نسخ حكمه بالكلية .

                                ومن أصحابنا من أجاز إمامته في قيام رمضان ، إذا لم يوجد قارئ غيره ؛ فإن أحمد أجاز إمامة المرأة في ذلك ، والغلام أولى ، وفيه نظر - أيضا - ؛ فإن المرأة من أهل التكليف ووجوب الصلاة ، بخلاف الصبي .

                                ولهذا اختلف أصحابنا في إمامة الغلام إذا بلغ عشر سنين ، وقلنا : تجب الصلاة عليه ، كما هو رواية عن أحمد ، اختارها طائفة من أصحابه ، منهم : أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسن التميمي وأبو الحسن الجزري وأبو حفص البرمكي ، وحكي عن ابن حامد - أيضا .

                                فاختلفوا : هل يصح أن يؤم في الصلاة المفروضة حينئذ ، أم لا ؟ على وجهين :

                                أحدهما : أنه لا يؤم فيها - أيضا - قاله أبو حفص البرمكي والقاضي أبو يعلى والأكثرون ، والثاني : يصح ، قاله أبو الخطاب .

                                [ ص: 173 ] قال القاضي وأصحابه : إذا قلنا : لا يصح أن يؤم في فرض فلا فرق بين فروض الأعيان وفروض الكفايات كالجنائز .

                                وقد استدل البخاري لصحة إمامة العبد والمولى وولد الزنا والأعرابي والصبي بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله ) .

                                وقد خرجه في موضع آخر مسندا من حديث عمرو بن سلمة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وخرجه مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري ، وقد سبق .

                                وقد استدل به بنو جرم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة الصبي ، حتى قدموا عمرو بن سلمة أخذا بعمومه .

                                وقد أجاب بعضهم بأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه ذلك وأقر عليه .

                                وهذا يرجع إلى أن ما عمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه بلغه ، فهل يكون حجة ، أم لا ؟ وفيه اختلاف مشهور .

                                والمخالف في ذلك يقول : عموم هذا الحديث لا بد من تخصيصه ؛ فإن المرأة لو كانت أقرأ القوم لم تؤمهم مع وجود قارئ غيرها إجماعا ، وعند عدمه - أيضا - عند الأكثرين ، فلذلك نخص منه الصبي ؛ لأنه ليس من أهل التكليف ، والكلام إنما توجه إلى من يدخل تحت التكليف ، فيتوجه إليه الخطاب . والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                المسألة الخامسة :

                                قال : لا يمنع العبد من الجماعة بغير علة .

                                [ ص: 174 ] هذا يدل على أن البخاري يرى وجوب الصلاة في الجماعة على المملوك ، وأن سيده لا يجوز له منعه منها .

                                وهو - أيضا - ظاهر كلام أحمد .

                                قال إسحاق بن هانئ : سألت أبا عبد الله عن العبد يرسله مولاه في حاجته ، فتحضر الصلاة : فيصلي ، ثم يقضي حاجة مولاه ، أو يقضي حاجة مولاه ثم يصلي ؟ ولعله إن قضى حاجة مولاه لا يجد مسجدا يصلي فيه ؟ فقال أبو عبد الله : إذا علم أنه إن قضى حاجة مولاه أصاب مسجدا يصلي فيه قضى حاجة مولاه ، وإن علم أنه لا يجد مسجدا يصلي فيه صلى ، ثم قضى حاجة مولاه .

                                وقال صالح ابن الإمام أحمد : سألت أبي عن العبد يأمره مواليه بالحاجة ، وتحضر الصلاة ؟ قال : إن وجد مسجدا يصلي فيه قضى حاجة مواليه ، وإن صلى فلا بأس .

                                ومن المتأخرين من أصحابنا من قال : يتخرج وجوب الجماعة على العبد على وجوب الجمعة عليه ، وفيه روايتان عن أحمد ، فلذلك يخرج في وجوب الجماعة .

                                ومنهم من قال : لا تجب الجماعة على العبد بحال ، لتكررها كل يوم وليلة بخلاف الجمعة .

                                وممن قال : لا تجب الجماعة على العبد من أصحابنا : القاضي أبو يعلى في ( خلافه ) وأبو الفتح الحلواني .

                                وروي عن الحسن ما يدل على مثله ، فروى أبو بكر الخلال بإسناده ، عن مهدي بن ميمون ، قال : سألت الحسن عن عبد مملوك تحضره الصلاة ، فيحب أن يصليها فيرسله مولاه في بعض الحاجة ، فبأي ذلك يبدأ ؟ قال : يبدأ بحاجة مولاه .



                                الخدمات العلمية