الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام .

واختلف أهل العربية في قوله : " إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " .

فقال بعض نحويي البصرة في ذلك : انقطع الكلام عند قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، ثم فسر بقوله : " فألف بين قلوبكم " ، وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف ، كما تقول : "أمسك الحائط أن يميل " .

وقال بعض نحويي الكوفة : قوله " إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، تابع قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " غير منقطعة منها . [ ص: 77 ]

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله : " إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، متصل بقوله : " واذكروا نعمة الله عليكم " ، غير منقطع عنه .

وتأويل ذلك : واذكروا ، أيها المؤمنون ، نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم ، حين كنتم أعداء في شرككم ، يقتل بعضكم بعضا ، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله ، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه ، كما : -

7582 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، كنتم تذابحون فيها ، يأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فآخى به بينكم ، وألف به بينكم . أما والله الذي لا إله إلا هو ، إن الألفة لرحمة ، وإن الفرقة لعذاب .

7583 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء " ، يقتل بعضكم بعضا ، ويأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فألف به بينكم ، وجمع جمعكم عليه ، وجعلكم عليه إخوانا .

قال أبو جعفر : فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكروها ، هي ألفة الإسلام ، واجتماع كلمتهم عليها والعداوة التي كانت بينهم ، التي قال الله عز وجل : " إذ كنتم أعداء " فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام ، يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة ، . كما : - [ ص: 78 ]

7584 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق : كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام وهم على ذلك ، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم ، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم . ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

فذكرهم جل ثناؤه إذ وعظهم ، عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا ، وخوف بعضهم من بعض ، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به وبما جاء به ، من الائتلاف والاجتماع ، وأمن بعضهم من بعض ، ومصير بعضهم لبعض إخوانا ، وكان سبب ذلك ما : -

7585 - حدثنا به ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا . قال : وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه . قال : فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام ، قال : فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي! قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان - يعني : حكمة لقمان - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اعرضها علي " فعرضها عليه ، فقال : "إن هذا لكلام حسن ، معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله علي هدى ونور . قال : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، وقال : إن هذا لقول حسن! ثم [ ص: 79 ] انصرف عنه وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج . فإن كان قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم . وكان قتله قبل يوم بعاث .

7586 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، أحد بني عبد الأشهل : أن محمود بن لبيد ، أحد بني عبد الأشهل قال : لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم فقال "هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ " قالوا : وما ذاك ؟ قال : "أنا رسول الله ، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، وأنزل علي الكتاب . ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له! قال : فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء ، فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال : فصمت إياس بن معاذ ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا [ ص: 80 ] إلى المدينة ، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج . قال . ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك . قال : فلما أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع في كل موسم . فبينا هو عند العقبة ، إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا .

قال ابن حميد قال : سلمة قال : محمد بن إسحاق ، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ; عن أشياخ من قومه قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : "من أنتم ؟ " قالوا : نفر من الخزرج قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا : بلى! . قال : فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام ، أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك ، أصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم . فكانوا إذا كان بينهم شيء ، قالوا لهم : إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ! . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه! فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدقوه وقبلوا منه [ ص: 81 ] ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين; فإن يجمعهم الله عليه ، فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم ، قد آمنوا وصدقوا وهم فيما ذكر لي ستة نفر . قال : فلما قدموا المدينة على قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم . حتى إذا كان العام المقبل ، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة ، وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب .

7587 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة : أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار فآمنوا به وصدقوه ، فأراد أن يذهب معهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن [ ص: 82 ] بين قومنا حربا ، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد . فوعدوه العام المقبل ، وقالوا : يا رسول الله ، نذهب ، فلعل الله أن يصلح تلك الحرب! قال : فذهبوا ففعلوا ، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلح وهو يوم بعاث . فلقوه من العام المقبل سبعين رجلا قد آمنوا ، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا ، فذلك حين يقول : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " .

7588 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما : " إذ كنتم أعداء " ، ففي حرب ابن سمير " فألف بين قلوبكم " ، بالإسلام .

7589 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بنحوه وزاد فيه : فلما كان من أمر عائشة ما كان ، فتثاور الحيان ، فقال بعضهم لبعض : موعدكم الحرة! فخرجوا إليها ، فنزلت هذه الآية : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ ص: 83 ] " ، الآية . فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا ، وحتى إن لهم لخنينا يعني البكاء .

" وسمير " الذي زعم السدي أن قوله " إذ كنتم أعداء " عنى به حربه ، هو سمير بن زيد بن مالك ، أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله :

إن سميرا ، أرى عشيرته قد حدبوا دونه وقد أنفوا     إن يكن الظن صادقي ببني
النجار لم يطعموا الذي علفوا [ ص: 84 ]

وقد ذكر علماء الأنصار : أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها الأوس والخزرج وأولها ، كان بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي ، يقال له : " الحر بن سمير " من مزينة ، وكان حليفا لمالك بن العجلان ، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . فذلك معنى قول السدي : "حرب ابن سمير " .

وأما قوله : " فأصبحتم بنعمته إخوانا " ، فإنه يعني : فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق ، والتعاون على نصرة أهل الإيمان ، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر ، إخوانا متصادقين ، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد ، كما : -

7590 - حدثني بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، [ ص: 85 ] قوله : " فأصبحتم بنعمته إخوانا " ، وذكر لنا أن رجلا قال لابن مسعود : كيف أصبحتم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخوانا .

التالي السابق


الخدمات العلمية