الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 75 ] ( الفرق الثاني والثلاثون والمائتان بين قاعدة المدعي وقاعدة المدعى عليه ) فإنهما يلتبسان فليس كل طالب مدعيا ، وليس كل مطلوب منه مدعى عليه ، ولأجل ذلك وقع الخلاف بين العلماء فيهما في عدة مسائل ، والبحث في هذا الفرق بحث عن تحقيق قوله عليه السلام { البينة على من ادعى واليمين على من أنكر }

من هو المدعي الذي عليه البينة ، ومن هو المدعى عليه الذي يحلف فضابط المدعي والمدعى عليه فيه عبارتان للأصحاب إحداهما أن المدعي هو أبعد المتداعيين سببا ، والمدعى عليه [ ص: 75 ] هو أقرب المتداعيين سببا ، والعبارة الثانية ، وهي توضح الأولى المدعي من كان قوله على خلاف أصل أو عرف ، والمدعى عليه من كان قوله على وفق أصل أو عرف ، وبيان ذلك بالمثل أن اليتيم إذا بلغ ، وطلب الوصي بما له تحت يده فقال أوصلتك فإنه مدعى عليه ، والوصي المطلوب مدع فعليه البينة لأن الله تعالى أمر الأوصياء بالإشهاد على اليتامى إذا دفعوا إليهم أموالهم فلم يأتمنهم على الدفع بل على التصرف والإنفاق خاصة ، وإذا لم يكونوا أمناء كان الأصل عدم الدفع ، وهو يعضد اليتيم ، ويخالف الوصي فهذا طالب ، واليمين عليه لأنه مدعى عليه ، والوصي مطلوب ، وهو مدع ، وكذلك طالب الوديعة التي سلمها للمودع عند بينة لأنه لم يأتمن المودع عنده لما أشهد عليه فالقول قول صاحب الوديعة مع بينة ، وإن كان طالبا لأن ظاهر حال المودع عنده لما قبض ببينة أنه لا يعطي إلا ببينة .

والأصل أيضا عدم الدفع فاجتمع الأصل والغالب ، وهما يعضدان صاحب الوديعة ، ويخالفان القابض لها ، وكذلك القراض إذا قبض ببينة فإن قبضت الوديعة أو القراض بغير بينة فالقول قول العامل والمودع عنده لأن يدهما يد أمانة صرفة ، والأمين مصدق ، ونظائر هذا كثيرة يكون الطالب فيها مدعى عليه ، ويعتمد أبدا الترجيح بالعوائد وظواهر الأحوال والقرائن فيحصل لك من هذا النوع ما لا ينحصر عدده ، ومن هذا الباب إذا تداعى بزاز ودباغ جلدا كان الدباغ مدعى عليه أو قاض وجندي رمحا كان الجندي مدعى عليه ، وعليه مسألة الزوجين إذا اختلفا في متاع البيت أن يقول قول الرجل فيما يشبه قماش الرجال ، والقول قول المرأة فيما يشبه قماش النساء ، وإذا تنازع عطار وصباغ في مسك وصبغ قدم العطار في المسك والصباغ في الصبغ ، وقد تقدمت هذه المسألة ، والخلاف فيها مع الشافعي رضي الله عنه ، وكذلك خالفنا في هذه المسائل المتقدمة كلها ، وحجتنا النصوص المتقدمة ، وأما الأصل وحده من غير ظاهر ولا عرف فمن ادعى على شخص دينا أو غصبا أو جناية ونحوها فإن الأصل عدم هذه الأمور ، والقول قول المطلوب منه مع يمينه لأن الأصل يعضده ، ويخالف الطالب ، وهذا مجمع عليه ، وإنما الخلاف في الظواهر المتقدمة ، وظهر لك بهذا قول الأصحاب أن المدعي هو أضعف المتداعيين سببا ، والمدعى عليه هو أقوى المتداعيين سببا .

( تنبيه ) ما ذكرناه من الظواهر ينتقض بما اجتمعت عليه الأمة من أن الصالح التقي الكبير العظيم المنزلة [ ص: 76 ] والشأن في العلم والدين بل أبو بكر الصديق أو عمر بن الخطاب لو ادعى على أفسق الناس وأدناهم درهما لا يصدق فيه ، وعليه البينة ، وهو مدع ، والمطلوب مدعى عليه ، والقول قوله مع يمينه ، وعكسه لو ادعى الطالح على الصالح لكان الحكم كذلك ، وبهذا يحتج الشافعي علينا ، ويجيب عما تقدم ذكره بذلك ، وكما أن هذه الصور حجة للشافعي فهو نقض على قولنا المدعي من خالف قوله أصلا أو عرفا ، والمدعى عليه من وافق قوله أصلا أو عرفا فإن العرف في هذه الصور شاهد ، وكذلك الظاهر ، وقد ألغيا إجماعا فكان ذلك مبطلا للحدود المتقدمة ، ونقصا على المذهب فتأمل ذلك

( تنبيه ) قال بعض العلماء قول الفقهاء إذا تعارضا الأصل والغالب يكون في المسألة قولان ليس على إطلاقه بل اجتمعت الأمة على اعتبار الأصل وإلغاء الغالب في دعوى الدين ونحوه فالقول قول المدعى عليه ، وإن كان الطالب أصلح الناس وأتقاهم لله تعالى ، ومن الغالب عليه أن لا يدعي إلا ماله فهذا الغالب ملغى إجماعا ، واتفق الناس على تقديم الغالب وإلغاء الأصل في البينة إذا شهدت فإن الغالب صدقها ، والأصل براءة ذمة المشهود عليه ، وألغي الأصل هنا إجماعا عكس الأول فليس الخلاف على الإطلاق .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثالث والثلاثون والمائتان بين قاعدتي المدعي والمدعى عليه ) :

وفيه اختلفت عبارة العلماء تحقيقا لمن هو المدعي الذي عليه البينة ولمن هو المدعي الذي يحلف في قوله صلى الله عليه وسلم { البينة على من ادعى واليمين على من أنكر } لأن بينهما التباسا ، وعلم القضاء يدور على التمييز بينهما لقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه من ميز بينهما فقد عرف وجه القضاء كما في تسولي العاصمية فقيل كل طالب فهو مدفوع ، وكل مطلوب فهو مدعى عليه .

وقال ابن المسيب رضي الله عنه كل من قال قد كان فهو مدع ، وكل من قال لم يكن فهو مدعى عليه ا هـ .

وللأصحاب فيه عبارتان توضح ثانيهما الأولى أحدهما أن المدعي هو أبعد المتداعيين سببا ، والمدعى عليه هو أقرب المتداعيين سببا ، والثانية أن المدعي من كان قوله على خلاف أصل أو عرف أي مجردا عنهما معا فأو هنا بمعنى الواو ، والمدعى عليه من كان قوله على وفق أصل أو عرف قال التسولي [ ص: 119 ] وبمعنى العرف العادة ، والشبه ، والغالب كما يعلم مما سيأتي من الأمثلة ، وأو هنا مانعة خلو فقط فتجوز الجمع ، ومن أمثلة ما وافق المدعى عليه فيه الأصل وحده ، وخالفه المدعي من ادعى على شخص دينا أو غصبا أو جناية ، ونحوهما فإن الأصل عدم هذه الأمور .

والقول قول المطلوب منه مع يمينه لأن الأصل يعضده ، ويخالف الطالب ، وهذا مجمع عليه ، ومنها اختلاف اليتيم بعد بلوغه ورشده مع وصية في الدفع فإن اليتيم متمسك بالأصل الذي هو عدم الدفع فهو مدعى عليه ، وإن كان طالبا فعليه اليمين ، والوصي مدع ، وإن كان مطلوبا لأنه غير أمين في الدفع عند التنازع لقوله تعالى { فأشهدوا عليهم } فعليه البينة ، ومن أمثلة ما وافق المدعى عليه فيه العرف وحده من ادعى الشراء أو الهبة من حائز للمدعي فيه مدة الحيازة فالحائز مدعى عليه لأنه تقوى جانبه بالحيازة ، والقائم مدع ، ومنها جزار ودباغ تداعيا جلدا تحت يدهما ، ولا يد عليه فالجزار مدعى عليه والدباغ مدع فإن كانت تحت يد أحدهما فالحائز مدعى عليه ، ومنها قاض وجندي تداعيا رمحا تحت يدهما أو لا يد عليه فالجندي مدعى عليه ، والقاضي مدع ، ومنها عطار وصباغ تداعيا مسكا وصبغا فالعطار مدع في الصبغ مدعى عليه في المسك والصباغ بالعكس ، ومنها اختلاف الزوجين في متاع البيت فللمرأة المعتاد للنساء ما لم يزد على نقد صداقها ، وهي معروفة بالفقر ، ومنه النكول ، ودعوى الشبه عند الاختلاف في الصداق أو البيع أو غيرهما ، ومنها دعوى العامل في القراض أو المودع عنده الرد حيث قبضا بغير إشهاد فالمدعى عليه في هذه الأمثلة هو من تقوى جانبه بسبب من حيازة أو شبه أو نكول صاحبه أو أمانة أو كون المتنازع فيه مما شأنه أن يكون له ، والمدعي من تجرد قوله عن ذلك السبب كما في التسولي على العاصمية .

ومن أمثلة ما وافق المدعى عليه فيه الأصل والعرف معا طالب الوديعة التي سلمها للمودع عنده ببينة لأنه لو ائتمن

المودع عنده لما أشهد عليه فالقول قول صاحب الوديعة بيمينه فهو المدعى عليه ، وإن كان طالبا والمودع عنده مدع عليه البينة ، وإن كان مطلوبا لأن ظاهر حاله لما قبض ببينة أنه لا يعطي إلا ببينة ، والأصل أيضا عدم الدفع فالأصل ، والغالب معا يعضدان صاحب الوديعة ويخالفان المودع عنده ، وكذلك القراض إذا قبض ببينة قال التسولي على العاصمية ، وإذا تمسك كل منهما بالعرف كما إذا أشبها معا فيما يرجع فيه للشبه كتنازع جزار مع جزار في جلد ، ونحو ذلك ، ولم يكن بيد أحدهما حلفا وقسم بينهما ، وإذا تمسك كل منهما بالأصل كدعوى المكتري للرحى أو الدار أنه انهدمت أو انقطع الماء عنها ثلاثة أشهر ، وقال المكتري شهران فقط اختلف فيمن يكون مدعى عليه منهما فقيل المكتري لأن الأصل براءة ذمته من الغرامة فيستصحب ذلك ، وقيل المكري لأن عقد الكراء أوجب دينا في ذمة المكتري ، وهو يدعي إسقاط بعضه فلا يصدق ، وكذلك لو قبض شخص من رجل دنانير فلما طلبه بها الدافع زعم أنه قبضها من مثلها المرتب له في ذمته فإن اعتبرنا كون الدافع بريء الذمة من سلف هذا القابض كان الدافع مدعى عليه ، وهو الراجح كما لابن رشد وأبي الحسن وغيرهما ، وإن اعتبرنا حال القابض ، وأن الأصل فيه أيضا براءة الذمة فلا يؤاخذ بأكثر مما أقر به جعلناه هو المدعى عليه فافهم فبهذه الوجوه صعب علم القضاء قال وإذا تعارض الأصل ، والغالب قدم الشافعية الأصل في جميع صور التعارض .

وقدم المالكية الغالب لقوله تعالى { وأمر بالعرف } فكل أصل كذبه العرف كما إذا شهدت البينة بدين ونحوه فإن الغالب [ ص: 120 ] صدقها ، والأصل براءة ذمة المشهود عليه وجب أن لا يعمل به إلا في مسألة ما إذا ادعى الصالح التقي الكبير العظيم المنزلة والشأن من العلم والدين بل أبو بكر الصديق أو عمر الفاروق ابن الخطاب على أفسق الناس وأدناهم درهما واحدا فإن الغالب صدقه ، والأصل براءة الذمة فيقدم الأصل على الغالب في هذه عند المالكية ا هـ بتصرف وتوضيح .

لكن قال الأصل أن إلغاء الأصل في البينة إذا شهدت بدين ونحوه أجمعت عليه الأمة كما أن إلغاء الغالب في مجرد دعوى الدين ، ونحوه ، وإن كان الطالب أصلح الناس وأتقاهم لله تعالى على أفسق الناس بدرهم واحد كذلك أجمعت عليه الأمة فليس في كون الملغى الأصل أو الغالب عند تعرضهما على الإطلاق ، وبهذا الإجماع احتج الشافعية علينا في تقديم الغالب على الأصل في دعوى المرأة المسيس وعدم الإنفاق ونحوهما مما شهد العرف فيه للمدعي كما مر ، ويوضحه ما في حاشية العطار على محلي جمع الجوامع قال زكريا ، وفي قواعد الزركشي تعارض الأصل ، والغالب فيه قولان ، ولجريان القولين ثلاثة شروط

( أحدها ) أن لا تطرد العادة بمخالفة الأصل ، وإلا قدمت قطعا ، ولذا حكم بنجاسة الماء الهارب في الحمام لاطراد العادة بالبول فيه الثاني أن تكثر أسباب الظاهر فإن ندرت لم ينظر إليه قطعا ، ولذا اتفق الأصحاب بالأخذ بالوضوء فيمن تيقن الطهارة ، وغلب على ظنه الحدث مع إجزائهم القولين فيما يغلب على الظن نجاسته هل يحكم بنجاسته ، وفرق الإمام بأن الأسباب التي تظهر بها النجاسة كثيرة جدا ، وهي في الأحداث قليلة ، ولا أثر للنادر ، والتمسك باستصحاب اليقين أولى .

( الثالث ) أن لا يكون مع أحدهما ما يعتضد به ، وإلا فالعمل بالترجيح متعين ، والضابط أنه إذا كان الظاهر حجة يجب قبولها شرعا كالشهادة والرواية فهو مقدم على الأصل قطعا ، وإن لم يكن كذلك بل كان سنده ، العرف أو القرائن أو غلبة الظن فهذه يتفاوت أمرها فتارة يعمل بالأصل ، وتارة يعمل بالظاهر وتارة يخرج خلاف فهذه أربعة أقسام الأول ما قطعوا فيه بالظاهر كالبينة الثاني ما فيه خلاف ، والأصح تقدم الظاهر كما في اختلاف المتعاقدين في الصحة والفساد فالقول لمدعي الصحة على الأظهر

لأن الظاهر من العقود الجارية بين المسلمين الصحة ، وإن كان الأصل عدمها الثالث ما قطعوا فيه بالأصل وإلغاء القرائن الظاهرة كما لو اشتبه محرمة بنسوة قرية كبيرة فإن له نكاح من شاء منهن لأن الأصل الإباحة .

الرابع ما فيه خلاف ، والأصح تقديم الأصل كما في ثياب مدمني النجاسة وطين الشارع الذي يغلب على الظن اختلاطه بالنجاسة ، والمقابر التي يغلب على الظن نبشها فإن الأصح فيها الطهارة ا هـ المراد بتلخيص فافهم .

هذا ، والذي تحصل من بيان ما للأصحاب من الفرقين الأخيرين بين المدعي ، والمدعى عليه بالأمثلة المذكورة ، وأنها بمعنى واحد ، وأنهما مطردان ، وأن الفرق الأول غير مطرد لنقضه بما تقدم في الوديعة مع الإشهاد واليتيم مع وصية ، ونحو ذلك كدعوى المرأة المسيس على زوجها في خلوة الاهتداء ، وادعى هو عدمه فإن كلا منهم طالب مع أنه مدعى عليه فلذا قال الأصل فليس كل طالب مدعيا ، وليس كل مطلوب منه مدعى عليه ا هـ وسلمه ابن الشاط .

وأما فرق ابن المسيب فكذلك قيل أنه غير مطرد لنقضه بدعوى المرأة على زوجها الحاضر أنه لم ينفق عليها ، وقال هو أنفقت ، وبدعوى المرأة المسيس على زوجها في خلوة الاهتداء ، وادعى عدمه فهو مدعى عليه في [ ص: 121 ] الأولى لشهادة العرف له ، وهي مدعية ، وهما في الثانية على العكس ، وفرق ابن المسيب يقتضي أنها في الأولى مدعى عليها لأنها تقول لم يكن ، وفي الثانية مدعية لأنها تقول قد كان كما في التسولي على العاصمية قال وأجيب بأن الرد المذكور للتعريفين أي للمدعي ، والمدعى عليه بما ذكر أي الفرق الأول .

وفرق ابن المسيب إنما يتم ولو كان القائل بهما يسلم أن الطالب ، ومن يقول قد كان فيما ذكر أي من المسائل التي تقضي بها الراد كلا من التعريفين المذكورين مدعى عليه ، وإلا فقد يقول إنه مدع قام له شاهد من عرف أو أصل ، ولا يحتج على الإنسان بمذهب مثله ، واختار هذا الجواب ابن رحال

والحاصل على ما يظهر من كلامهم ، وهو الذي يوجبه النظر أن المتداعيين أن يتمسك أحدهما بالعرف فقط كالاختلاف في متاع البيت ، ودعوى الشبه واختلاف القاضي والجندي في الرمح ، والجزار والدباغ في الجلد ، ونحو ذلك مما لم يتعارض فيه العرف والأصل ، وأما أن يتمسك بالأصل فقط كالاختلاف في أصل الدين وفي قضائه ، وفي دعوى الحائز نفسه الحرية ، ودعوى رب المال والمودع عدم الرد مع دفعهما بإشهاد ، ودعوى اليتيم عدم القبض ، ونحو ذلك فالمدعى عليه في هذين أي أمثلة شهادة العرف فقط أو الأصل فقط ، هو المتمسك بذلك العرف أو الأصل على تعريف الأصحاب ، وهو المطلوب ، ومن يقول لم يكن على التعريفين الأولين ، وإما أن يتمسك أحدهما بالأصل ، والآخر بالعرف فيأتي الخلاف كدعوى الزوج على سيد الأمة أنه غره بتزويجها فالأصل عدم الغرور ، وبه قال سحنون ، والغالب عدم رضا الحر بتزويج الأمة ، وبه قال أشهب ، وهو الراجح ، وكمسألة اختلاف المتراهنين في قدر الدين فإن الرهن شاهد عرفي ، والأصل براءة ذمة الراهن ، وكمسألة الحيازة المتقدمة ، ودعوى عامل القراض والمودع عنده الرد مع عدم الإشهاد لأن الغالب صدق الأمين ، ودعوى المرأة المسيس ، وعدم الإنفاق ، ونحو ذلك فالمدعى عليه في مثل هذا على تعريف الأصحاب هو المتمسك بالعرف لأن قولهم أو عرف أعم من كونه عارضه أصل أم لا ، وعلى التعريفين الأولين .

هو المطلوب ، ومن يقول لم يكن لكن لما ترجح جانب المدعي فيها بشهادة العرف لأنه أقوى صار المدعي مدعى عليه ، ويدل لهذا قول ابن رشد ما نصه المعنى الذي من أجله وجب على المدعي إقامة البينة تجرد دعواه من سبب يدل على صدقه فيما يدعيه فإن كان له سبب يدل على صدقه أقوى من سبب المدعى عليه كالشاهد الواحد أو الرهن ، وما أشبه ذلك من إرخاء الستر وجب أن يبدأ باليمين دون المدعى عليه ا هـ .

ونقله القلشاني ، وغيره فتأمل كيف سماه مدعيا ، وجعل الرهن وإرخاء الستور والشاهد الحقيقي سببا لصيرورته مدعى عليه لكونه في ذلك أقوى من سبب خصمه المتمسك بالأصل ، وقد اختلف في العرف هل هو شاهد أو كشاهد أن البرزلي القاعدة إحلاف من شهد له العرف فيكون بمثابة الشاهد ، وقيل هو كالشاهدين ا هـ . وقد درج خليل في مواضع على أنه كالشاهد منها قوله في الرهن ، وهو كالشاهد في قدر الدين ، وقد عقد في التبصرة بابا في رجحان قول المدعي بالعوائد ، وقال القرافي أجمعوا على اعتبار الغالب وإلغاء الأصل في البينة إذا شهدت فإن الغالب صدقها ، والأصل براءة ذمة المشهود عليه ا هـ فهذا كله يوضح لك الجواب المتقدم عما ورد على التعريفين الأولين .

ويدلك على عدم الفرق بين التعاريف الثلاثة لأن المدعي قد ينقلب مدعى عليه لقيام سبب أقوى من سبب خصمه كان ذلك السبب حقيقيا أو عرفيا [ ص: 122 ] إلا أن العرفي لا يقوى عندهم قوة الحقيقي فليست اليمين معه تكملة للنصاب حتى يؤدي ذلك لنفي يمين الإنكار بدليل أنه إذا انضم إليه شاهد حقيقي لا يثبت الحق بدون اليمين كما نقله بعضهم عن المتيطي عند قول خليل ، وهو كالشاهد إلخ فاعتراض التاودي على الجواب السابق بكونه يؤدي لنفي يمين الإنكار إلخ ساقط ا هـ بتوضيح المراد فانهم .

( تنبيه ) قال الأصل خولفت قاعدة الدعاوى أي من قبول قول المطلوب دون الطالب في خمس مواطن يقبل فيها قول الطالب :

( أحدها ) اللعان يقبل فيه قول الزوج لأن العادة أن الرجل ينفي عن زوجه الفواحش فحيث أقدم على رميها بالفاحشة مع أيمانه أيضا قدمه الشرع .

( وثانيها ) في القسامة يقبل فيها قول الطالب لترجحه باللوث .

( وثالثها ) قبول قول الأمناء في التلف لئلا يزهد الناس في قبول الأمانات فتفوت مصالحها المترتبة على حفظ الأمانات ، والأمين قد يكون أمينا من جهة مستحق الأمانة ، وقد يكون من جهة الشرع كالوصي والمتلقط ، ومن ألقت الريح ثوبا في بيته .

( ورابعها ) قبول قول الحاكم في التجريح والتعديل وغيرهما من الأحكام لئلا تفوت المصالح المرتبة على الولاية للأحكام .

( وخامسها ) قبول قول الغاصب في التلف مع يمينه لضرورة الحاجة لئلا يخلد في الحبس ا هـ ، وسلمه ابن الشاط لكن قال التسولي على العاصمية فتأمل عده اللعان والقسامة والأمانة فإن الظاهر أن ذلك مما قدم فيه الغالب على الأصل كما مر فلم تكن فيه مخالفة ، وبعضهم يعبر عن الأمين أن الغالب صدقه أي في الرد والتلف ، وبعد أن ذكرها المكناسي في مجالسه قال ، ومنها اللصوص إذا قدموا بمتاع ، وادعى شخص أنه له ، وأنهم نزعوه منه فيقبل قوله مع يمينه ، ويأخذه ، ومنها السمسار إذا ادعى عليه أنه غيب ما أعطى له للبيع ، وكان معلوما بالعداء ، وبإنكار الناس فيصدق المدعي بيمينه ، ويغرم السمسار ، ومنها السارق إذا سرق متاع رجل ، وانتهب ماله ، وأراد قتله ، وقال المسروق أنا أعرفه فيصدق المسروق بيمينه ، وهذه المسائل التي زادها لا تحملها الأصول كما لأبي الحسن ، ولا يخالف ما للمكناسي من قبول قول من ادعى على اللصوص أنهم أخذوا ما قدموا به منه ، ويأخذه ونحو ذلك قول القرافي الآتي في الفرق بين ما يقدم فيه النادر على الغالب ، وما لا ما نصه : أخذ السراق المنهومين بالتهم وقرائن أحوالهم كما يفعله الأمراء اليوم دون الإقرار الصحيح ، والبينات المعتبرة الغالب مصادفته للصواب ، والنادر خطؤه ، ومع ذلك ألغى الشارع هذا الغالب صونا للأعراض والأطراف عن القطع ا هـ .

فإنه يفهم منه أنه إنما ألغى الشارع هذا الغالب بالنسبة للأعراض والأطراف لا بالنسبة للغرامة فإنه يغرم فيوافق ما للمكناسي ، ولهذا درج ناظم العمل على ذلك حيث قال :

لوالد القتيل مع يمين القول في الدعوى بلا تبيين إذا ادعى دراهما وأنكرا
القاتلون ما ادعاه وطرا

فلا مفهوم لقوله القتيل بل المدار على كون المدعى عليه معروفا بالغصب والعداء انظر شرحه ، وانظر ما يأتي في الغصب ولا بد ا هـ .

وفي الغصب لما ذكر كلام ناظم العمل في شرحه للبيتين ، ونقله عن ابن النعيم ما نصه الذي جرى به العمل عندنا في هذه [ ص: 123 ] النازلة ، ومثلها أن القول لوالد القتيل مع يمينه أي إذا ادعى دراهم من جملة المنهوب ، وأنكرها القاتلون ، والظالم أحق أن يحمل عليه ، وإن كان المشهور خلافه أي من القول للغاصب في القدر والوصف كما في خليل ، وكم من مسألة جرى الحكم فيها بخلاف المشهور ، ورجحها العلماء للمصالح العامة ا هـ ، وعن العربي الفاسي في تأييده ساق بعده كلاما طويلا فراجعه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية