الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه السادس : أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لا يدل على وجود المجاز ، بل ولا على مكانه ، فإن التقسيم لا يدل على ثبوت كل واحد من الأقسام في الخارج ، ولا على إمكانها ، فإن التقسيم يتضمن حصر المقسوم في تلك الأقسام ، هي أعم من أن تكون موجودة أو معدومة ، ممكنة أو ممتنعة ، فهاهنا أمران : أحدهما : انحصار المقسوم في أقسامه ، وهذا يعرف بطرق :

منها أن يكون التقسيم دائرا بين النفي والإثبات ، ومنها أن يجزم العقل بنفي قسم آخر غيرها ، ومنها أن يحصل الاستقراء التام المفيد للعلم ، أو الاستقراء المفيد للظن .

والثاني : ثبوت تلك الأقسام أو بعضها في الخارج ، وهذا لا يستفاد من التقسيم ، بل يحتاج إلى الدليل منفصل يدل عليه ، وكثير من أهل النظر يغلط في هذا الموضع ، ويستدل بصحة التقسيم على الوجود الخارجية وإمكانه ، وهذا غلط محض ، كما يغلط كثير منهم في حصر ما ليس بمحصور ، فإن الذهن يقسم المعلوم إلى موجود ومعدوم ، . وما ليس بموجود ولا معدوم ، والموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره ، وإما لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره ، وإما قائم بنفسه وغيره ، وإما داخل العالم أو خارجه ، أو داخله ، أو داخله وخارجه ، أو لا داخله ولا خارجه ، وأمثال ذلك من التقسيمات الذهنية التي يستحيل ثبوت بعض أقسامها في الخارج .

إذا عرف ذلك فالذين قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز إن أرادوا بذلك التقسيم الذهني لم يفدهم ذلك شيئا ، وإن أرادوا التقسيم الخارجي لم يكن معهم دليل يدل على وجود الجميع في الخارج سوى مجرد التقسيم ، وهو لا يفيد الثبوت الخارجي ، [ ص: 291 ] فحينئذ لا يتم لهم مطلوبهم حتى يثبتوا أن هاهنا ألفاظا وضعت لمعان حتى تقلب عنها به بوضع ثان على معان أخر غيرها ، وهذا مما لا سبيل لأحد إلى العلم به .

الوجه السابع : أن تقسيم الألفاظ إلى ألفاظ مستعملة فيما وضعت له ، وألفاظ مستعملة في غير ما وضعت له تقسيم فاسد يتضمن إثبات الشيء ونفيه ، فإن وضع اللفظ للمعنى هو تخصيصه به بحيث إذا استعمل فهم منه ذلك المعنى ، ولا يعرف للوضع معنى غير ذلك ، ففهم المعنى الذي سميتموه أو سميتم اللفظ الدال عليه أو استعماله على حسب اصطلاحكم مجازا مع نفي الوضع جمع بين النقيضين ، وهو يتضمن أن يكون اللفظ موضوعا غير موضع .

فإن قلتم : لا تناقض في ذلك فإنا نفينا الوضع الأول وأثبتنا الوضع الثاني .

قيل لكم : هذا دور ممتنع ، فإن معرفة كونه مجازا متوقف على معرفة الوضع الثاني ومستفاد منه ، فلو استفيد معرفة الوضع من كونه مجازا لزم الدور الممتنع ، فمن أين علمتم أن هذا وضع ثان للفظ ، وليس معكم إلا أن ادعيتم أنه مجاز ، ثم قلتم : فيلزم أن يكون موضوعا وضعا ثانيا ، فإنكم إنما استفدتم كونه مجازا من كونه مستعملا في غير موضوعه فكيف يستفاد كونه مستعملا في غير موضوعه من كونه مجازا .

يوضحه الوجه الثامن : أنه ليس معكم إلا استعمال ، وقد استعمل في هذا وهذا ، فمن أين لكم أن وضعه لأحدهما سابق على وضعه للآخر ، ولو ادعى آخر أن الأمر بالعكس كانت دعواه من جنس دعواكم ، وسيأتي الكلام على الإطلاق والتقييد الذي هو حقيقة ما تعرفونه به ، وأنه لا يفيدكم شيئا البتة .

الوجه التاسع : أن هذا يتضمن التفريق بين المتماثلين ، فإن اللفظ إذا أفهم هذا المعنى تارة وهذا تارة فدعوى المدعي أنه موضوع لأحدهما دون الآخر ، وأنه عند فهم أحدهما يكون مستعملا في غير ما وضع له تحكم محض ، وتفريق بين المتماثلين .

الوجه العاشر : أن هذا تقسيم فاسد لا ينضبط بضابط صحيح ، ولهذا عامة ما يسميه بعضكم مجازا يسميه غيره حقيقة ، وهذا يدعي أنه استعمل فيما لم يوضع له ، وذلك يدعي أن هذا موضوعه ، وذلك أنه ليس في نفس الأمر فرق يتميز به أحد النوعين عن الآخر ، فإن الفرق إما في نفس اللفظ وإما في المعنى ، وكلاهما منتف قطعا ، أما انتفاء الفرق في اللفظ فظاهر ، فإن اللفظ بما سميتموه حقيقة وما سميتموه مجازا واحد ، وأما الفرق المعنوي فمنتف أيضا ، إذ ليس بين المعنيين من الفرق ما [ ص: 292 ] يدل على أنه وضع لهذا ولم يوضع لهذا بوجه من وجوه الدلالة ، ولهذا لما تفطن بعض الفضلاء لذلك قال : إنما يعرف الفرق بين الحقيقة والمجاز بنص أهل اللغة على أن هذا حقيقة وهذا مجاز ، فإن أراد بأهل اللغة العرب العاربة الذين نقلت عنهم الألفاظ ومعانيها ، فلم ينص أحد منهم البتة على ذلك ، وإن أراد من نقل عنهم الألفاظ ومعانيها مشافهة من أئمة اللغة كالأصمعي والخليل والفراء وأمثالهم فكذلك ، وإن أراد المتأخرين منهم الذين قسموا اللفظ إلى حقيقة ومجاز كابن جني والزمخشري وأبي علي وأمثالهم فهذا اصطلاح منهم لا إخبار عن العرب ، ولا عن نقلة اللغة أنهم نقلوه عن العرب ، وحينئذ فتعود المطالبة لهم بالفرق المطرد المنعكس بين ما سموه حقيقة وما سموه مجازا ، وسنذكر إن شاء تعالى فرقهم ونبطلها ، يوضحه :

الوجه الحادي عشر : أن تمييز الألفاظ والتفريق بينها تابع لتمييز المعاني والتفريق بين بعضها وبعض ، فإذا لم يكن المعنى الذي سموه حقيقيا منفصلا متميزا من المعنى الذي سموه مجازيا بفصل يعلم به أن استعماله في هذا حقيقة ، واستعماله في الآخر مجاز ، لم يصح التفريق في اللفظ ، وكان تسميته لبعض الدلالة حقيقة ولبعضها مجازا تحكما محضا .

الوجه الثاني عشر : أنهم اختلفوا هل تفتقر صحة الاستعمال المجازي إلى النقل في كل صورة ، كما تفتقر إلى ذلك الحقيقة أم لا على قولين ، والصحيح عندهم أنه لا يشترط ، قالوا : وليس مورد النزاع في الأشخاص كزيد وأسد وبحر وغيث ، إذ لا تتوقف صحة هذا الإطلاق على كل شخص على النقل .

فنقول : لا يتحقق ذلك في الأشخاص ولا في الأنواع ، أما الأشخاص فظاهر ، فإنه لا يشترط في استعمال اللفظ في كل واحد منها النقل عن أهل اللغة ، إذا كانت العلاقة موجودة في الأفراد ، وأما الأنواع فلا يكفي في استعمال اللفظ في كل صورة ظهور نوع من العلاقة المعتبرة ، فإن من العلاقات عندهم علاقة اللزوم ، بحيث يتجوز عن الملزوم إلى لازمه وعكسه ، وعلاقة التضاد بأن يتجوز من أحد الضدين إلى الآخر ، وعلاقة المشابهة وعلاقة الجوار والقرب ، وعلاقة تقدم ثبوت الصفة للحمل ، وعلاقة كونه آيلا إليها ، فبعضهم جعل أنواع العلاقات أربعة ، وبعضهم أوصلها إلى اثني عشر علاقة ، وبعضهم أوصلها إلى خمسة وعشرين ، ولو أوصلها آخر إلى خمسة وسبعين لقبلوا منه .

[ ص: 293 ] ومن المعلوم أنه ما من شيئين إلا وبينهما علاقة من هذه العلاقات ، فإذا لم يشترط النقل في آحاد الصور واكتفي بنوع العلاقة لزم من ذلك صحة التجوز بإطلاق كل لازم على لازمه ، وكل لازم على ملزومه ، وكل ضد على ضده ، وكل مجاور على مجاوره ، وكل شيء كان على صفة ، ثم فاقها على ما اتصف بها ، وكل مشبه على مشبهه ، وفي ذلك من الخبط وفساد اللغات وبطلان التفاهم ووقوع اللبس والتلبيس ما يمنع منه العقل والنقل ومصالح الآدميين ، فيجوز تسمية الليل نهارا والنهار ليلا ، والمؤمن كافرا والكافر مؤمنا ، والصادق كاذبا والكاذب صادقا ، والمسك نتنا والنتن مسكا ، والبول طعاما والطعام بولا ، وتسمية كل شيء باسم ضده ومجاوره ومشابهه ولازمه ، فهل يقول هذا أحد من عقلاء بني آدم ؟ وهل في العالم قول أفسد من قول هذا لازمه ؟ .

ولما ورد عليهم وعرفوا أنه وارد لا محالة قالوا : المانع يمنع من ذلك ، ولولا المانع لقلنا به ، فيقال : يا لله العجب ، ما أسهل الدعوى التي لا حقيقة لها عليكم ، أليس من المعلوم أن إضافة الحكم إلى المانع يستلزم أمرين : أحدهما قيام المقتضي والآخر إثبات المانع ، فقد سلمتم حينئذ أن المقتضي للتجوز المذكور موجود ، وادعيتم على العرب وأهل اللغة أن هذه العلاقات عندهم مقتضية لإطلاق اسم الضد على ضده ، واللازم على ملزومه والمجاور على مجاوره ، ثم ادعيتم أنهم منعوكم من هذا التجوز فيما لا يحصيه إلا الله تعالى ، فمن أين لكم الشهادة عليهم بهذا المقتضى وهذا المانع ، وأين قالوا لكم : أبحنا لكم إطلاق هذه الأضداد الخاصة على أضدادها ، وهذه اللوازم على ملزوماتها وحرمنا عليكم ما عداها ، وهل معكم غير الاستعمال الثابت عنهم ، وذلك الاستعمال لا يفيد أن ذلك بوضعهم وعرفهم من خطابهم ، فما لم يستعملوه وما لم يتفاهموه من مخاطباتهم علمنا أنه ليس من لغتهم ، وما فهموه واستعملوه هو من لغتهم ، وإذا دار الأمر بين إضافة الحكم إلى عدم مقتضيه وإضافته إلى وجود مانعه تعينت حوالته على عدم مقتضيه تخلصا من دعوى التعارض والتناقض ، فإن الصورة الممنوع منها إذا كانت مثل الصورة المستعملة كان التفريق بينهما تفريقا بين المتماثلين ، والعقل يأباه ويمنع منه .

وهذه المحاولات إنما لزمت من تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم ، يوضحه : الوجه الثالث عشر : أن الذين اشترطوا النقل قالوا : لو جاز الإطلاق من غير فعل [ ص: 294 ] لكان ذلك إما قياسا ، إن كان مستندا إلى وصف ثبوتي مشترك بين صورة الاستعمال وصورة الإلحاق ، وإما اختراعا ، إن لم يستند إلى ذلك ، فأجابهم من لم يشترط النقل بأن قالوا : العلاقة مصححة للتجوز ، كرفع الفاعل ونصب المفعول ، فإنا لما استقرأنا لغتهم وجدناهم يرفعون ما نطقوا به من أسماء المفعولين علمنا أن سبب الرفع هو الفاعلية وسبب النصب هو المفعولية ، فهكذا استقراء علاقات المجاز ، وليس كذلك إطلاقهم كل ضد على ضده ، وكل لازم على لازمه .

وهذا الجواب من أفسد الأجوبة ، فإنا نعلم بالضرورة من لغتهم رفع كل فاعل ونصب كل مفعول ، وجر كل مضاف ، ولا يختلف في ذلك صورة من الصور ، فإنا لم نجد ذلك بنقل تواتر ولا آحاد ولا استقراء يفيد علما ولا ظنا ولا اطراد استعمال ، فقياس التجوز بكل ضد على ضده ، وبكل ملزوم على ملزومه على رفع الفاعل ونصب المفعول من أفسد القياس .

الوجه الرابع عشر : أنهم قالوا : يعرف المجاز بصحة نفيه ، أي إذا صح نفيه عما أطلق عليه كان مجازا ، كما يقال لمن قال : فلان بحر وأسد وشمس ، وحمار وكلب وميت ليس كذلك ، وهذا بخلاف الحقيقة ، فإنه لا يصح أن ينفى عما أطلق عليه لفظا ، فلا يقال للحمار والأسد والبحر والشمس ليس كذلك ، فإنه يكون كذبا ، وقد اعترفوا هم ببطلانه فقالوا : هذا فرق يلزم منه الدور ، وذلك أن صحة النفي وامتناعه يتوقف على معرفة الحقيقة والمجاز ، فلو عرفناهما بصحة النفي وامتناعه لزم الدور .

التالي السابق


الخدمات العلمية