الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم " لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، يقول : لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم " من دونكم " يقول : من دون أهل دينكم وملتكم ، يعني من غير المؤمنين .

وإنما جعل "البطانة " مثلا لخليل الرجل ، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه ، لحلوله منه - في اطلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه - محل ما ولي جسده من ثيابه .

فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ، ثم عرفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة ، وبغيهم إياهم الغوائل ، فحذرهم بذلك منهم ومن [ ص: 139 ] مخالتهم ، فقال تعالى ذكره : " لا يألونكم خبالا " ، يعني لا يستطيعونكم شرا ، من "ألوت آلو ألوا " ، يقال : "ما ألا فلان كذا " ، أي : ما استطاع ، كما قال الشاعر :


جهراء لا تألو ، إذا هي أظهرت ، بصرا ، ولا من عيلة تغنيني



يعني : لا تستطيع عند الظهر إبصارا .

وإنما يعني جل ذكره بقوله : " لا يألونكم خبالا " ، البطانة التي نهى المؤمنين [ ص: 140 ] عن اتخاذها من دونهم ، فقال : إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها‌‌ خبالا أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال .

وأصل "الخبل " و"الخبال " ، الفساد ، ثم يستعمل في معان كثيرة ، يدل على ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم :

7679 - " من أصيب بخبل أو جراح " .

وأما قوله : " ودوا ما عنتم " ، فإنه يعني : ودوا عنتكم ، يقول : يتمنون لكم العنت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسركم .

وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من اليهود وأهل النفاق منهم ، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام ، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 141 ]

7680 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : قال محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود ، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم ، ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " إلى قوله : " وتؤمنون بالكتاب كله " .

7681 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، في المنافقين من أهل المدينة . نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولوهم .

7682 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم " ، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين ، أو يؤاخوهم ، أو يتولوهم من دون المؤمنين .

7683 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، هم المنافقون .

7684 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن [ ص: 142 ] الربيع ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، يقول : لا تستدخلوا المنافقين ، تتولوهم دون المؤمنين .

7685 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا هشيم قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن الأزهر بن راشد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال : فلم ندر ما ذلك ، حتى أتوا الحسن فسألوه ، فقال : نعم ، أما قوله : " لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا " ، فإنه يقول : لا تنقشوا في خواتيمكم "محمد "; وأما قوله : " ولا تستضيئوا بنار أهل الشرك " ، فإنه يعني به المشركين ، يقول : لا تستشيروهم في شيء من أموركم . قال : قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ، ثم تلا هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " . . [ ص: 143 ]

7686 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، أما "البطانة " ، فهم المنافقون .

7687 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية ، قال : لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه .

7688 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية ، قال : هؤلاء المنافقون . وقرأ قوله : " قد بدت البغضاء من أفواههم " الآية .

قال أبو جعفر : واختلفوا في تأويل قوله : " ودوا ما عنتم " .

فقال بعضهم معناه : ودوا ما ضللتم عن دينكم .

ذكر من قال ذلك :

7689 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ودوا ما عنتم " ، يقول : ما ضللتم .

وقال آخرون بما : - [ ص: 144 ]

7690 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ودوا ما عنتم " ، يقول : في دينكم ، يعني : أنهم يودون أن تعنتوا في دينكم .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " ودوا ما عنتم " ، فجاء بالخبر عن "البطانة " ، بلفظ الماضي في محل الحال ، والقطع بعد تمام الخبر ، والحالات لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها ؟ .

قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أن قوله : " ودوا ما عنتم " حال من "البطانة " ، وإنما هو خبر عنهم ثان منقطع عن الأول غير متصل به . وإنما تأويل الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا ، صفتهم كذا . فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى ، وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد .

وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله : " ودوا ما عنتم " ، من صلة البطانة ، وقد وصلت بقوله : " لا يألونكم خبالا " ، فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام "البطانة " بصلته . ولكن القول في ذلك كما بينا قبل ، من أن قوله : " ودوا ما عنتم " ، خبر مبتدأ عن "البطانة " ، غير الخبر الأول ، وغير حال من البطانة ولا قطع منها . .

التالي السابق


الخدمات العلمية