الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد بصاحبه برصا أو جنونا أو جذاما أو يكون الزوج عنينا .

في " مسند أحمد " : من حديث يزيد بن كعب بن عجرة رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها ، ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا فاماز عن الفراش ، ثم قال : خذي عليك ثيابك " ولم يأخذ مما آتاها شيئا ) .

وفي " الموطأ " : عن عمر أنه قال : ( أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو [ ص: 164 ] جذام أو برص فلها المهر بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره ) .

وفي لفظ آخر : ( قضى عمر في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فرق بينهما والصداق لها بمسيسه إياها ، وهو له على وليها ) .

وفي " سنن أبي داود " : من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( طلق عبد يزيد أبو ركانة زوجته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها - ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فذكر الحديث . وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له : " طلقها " ففعل ، ثم قال : " راجع امرأتك أم ركانة " فقال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله . قال : " قد علمت ارجعها " وتلا : ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) ) [ الطلاق :1 ] .

ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج له عن بعض بني أبي رافع ، وهو مجهول ، ولكن هو تابعي وابن جريج من الأئمة الثقات العدول ، ورواية العدل عن غيره تعديل له ما لم يعلم فيه جرح ، ولم يكن الكذب ظاهرا في التابعين ، ولا سيما التابعين من أهل المدينة ، ولا سيما موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا سيما مثل هذه السنة التي تشتد حاجة الناس إليها لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا عن غير ثقة عنده ولم يبين حاله .

وجاء التفريق بالعنة عن عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وسمرة بن [ ص: 165 ] جندب ومعاوية بن أبي سفيان والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة والمغيرة بن شعبة ، لكن عمر وابن مسعود والمغيرة أجلوه سنة ، وعثمان ومعاوية وسمرة لم يؤجلوه ، والحارث بن عبد الله أجله عشرة أشهر .

وذكر سعيد بن منصور حدثنا هشيم أنبأنا عبد الله بن عوف عن ابن سيرين : ( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلا على بعض السعاية فتزوج امرأة وكان عقيما فقال له عمر : أعلمتها أنك عقيم ؟ . قال : لا ، قال : فانطلق فأعلمها ثم خيرها ) .

وأجل مجنونا سنة فإن أفاق وإلا فرق بينه وبين امرأته . فاختلف الفقهاء في ذلك ، فقال داود وابن حزم ومن وافقهما : لا يفسخ النكاح بعيب البتة ، وقال أبو حنيفة : لا يفسخ إلا بالجب والعنة خاصة .

وقال الشافعي ومالك : يفسخ بالجنون والبرص والجذام والقرن والجب والعنة خاصة ، وزاد الإمام أحمد عليهما : أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين ، ولأصحابه في نتن الفرج والفم وانخراق مخرجي البول والمني في الفرج ، والقروح السيالة فيه والبواسير والناصور والاستحاضة ، واستطلاق البول والنجو والخصي وهو قطع البيضتين ، والسل وهو سل البيضتين والوجء وهو رضهما ، وكون أحدهما خنثى مشكلا ، والعيب الذي بصاحبه مثله من العيوب السبعة ، والعيب الحادث بعد العقد وجهان .

وذهب بعض أصحاب الشافعي : إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في البيع ، وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه ولا مظنته ولا من قاله . وممن حكاه أبو [ ص: 166 ] عاصم العباداني في كتاب طبقات أصحاب الشافعي ، وهذا القول هو القياس أو قول ابن حزم ومن وافقه .

وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها ، فلا وجه له فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين ، أو الرجلين أو إحداهما أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات ، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش ، وهو مناف للدين ، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفا ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له : أخبرها أنك عقيم وخيرها " فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هذا عندها كمال لا نقص ؟! .

والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار وهو أولى من البيع ، كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع ، وما ألزم الله ورسوله مغرورا قط ولا مغبونا بما غر به وغبن به ، ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة .

وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب قال قال عمر : ( أيما امرأة زوجت وبها جنون أو جذام أو برص فدخل بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها وعلى الولي الصداق بما دلس كما غره ) .

ورد هذا بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر من باب الهذيان البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة ، قال الإمام أحمد : إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر ، فمن يقبل . وأئمة الإسلام وجمهورهم يحتجون بقول سعيد بن المسيب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بروايته عن عمر رضي الله عنه ، وكان عبد الله بن عمر يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر ، فيفتي بها ، ولم يطعن أحد قط من أهل [ ص: 167 ] عصره ولا من بعدهم ممن له في الإسلام قول معتبر في رواية سعيد بن المسيب عن عمر ولا عبرة بغيرهم .

وروى الشعبي عن علي : ( أيما امرأة نكحت وبها برص أو جنون أو جذام أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها إن شاء أمسك وإن شاء طلق وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها ) .

وقال وكيع : عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر قال : ( إذا تزوجها برصاء أو عمياء فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على من غره ) .

وهذا يدل على أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص والحصر دون ما عداها ، وكذلك حكم قاضي الإسلام - حقا - الذي يضرب المثل بعلمه ودينه وحكمه : شريح . قال عبد الرزاق : عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين خاصم رجل إلى شريح ، فقال : إن هؤلاء قالوا لي : إنا نزوجك بأحسن الناس ، فجاءوني بامرأة عمشاء ، فقال شريح : إن كان دلس لك بعيب لم يجز ، فتأمل هذا القضاء ، وقوله : إن كان دلس لك بعيب . كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به ؟ وقال الزهري : يرد النكاح من كل داء عضال .

ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب إلا رواية رويت عن عمر رضي الله عنه ( لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة : الجنون والجذام والبرص والداء في الفرج ) وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادا أكثر من أصبغ عن ابن وهب عن عمر وعلي . روي عن ابن عباس ذلك بإسناد متصل ، ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عنه . هذا كله إذا أطلق الزوج [ ص: 168 ] وأما إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت شوهاء ، أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزا شمطاء ، أو شرطها بيضاء فبانت سوداء ، أو بكرا فبانت ثيبا ؛ فله الفسخ في ذلك كله .

فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها ، وإن كان بعده فلها المهر وهو غرم على وليها إن كان غره ، وإن كانت هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته ، ونص على هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط .

وقال أصحابه : إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها إلا في شرط الحرية إذا بان عبدا ، فلها الخيار . وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان ، والذي يقتضيه مذهبه وقواعده : أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها ، بل إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى ؛ لأنها لا تتمكن من المفارقة بالطلاق ، فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره ، فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى ، وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه ، وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به ، فإذا شرطته شابا جميلا صحيحا ، فبان شيخا مشوها أعمى أطرش أخرس أسود ، فكيف تلزم به وتمنع من الفسخ ؟! هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع وبالله التوفيق .

وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ، ولا يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن ، وهو أشد إعداء من ذلك البرص اليسير ، وكذلك غيره من أنواع الداء العضال ؟ .

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته ، وحرم على من علمه أن يكتمه من المشتري فكيف بالعيوب في النكاح ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية أو أبي الجهم : ( أما معاوية [ ص: 169 ] فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ) فعلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سببا للزومه وجعل ذا العيب غلا لازما في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه ، ولا سيما مع شرط السلامة منه ، وشرط خلافه ، وهذا مما يعلم يقينا أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه والله أعلم .

وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إلى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد أي عيب كان ، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد ، ولا خيار له فيه ، ولا إجازة ولا نفقة ولا ميراث . قال لأن التي أدخلت عليه غير التي تزوج ، إذ السالمة غير المعيبة بلا شك ، فإذا لم يتزوجها فلا زوجية بينهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية