الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

في الكلام على النعم ، وهل هي للكفار أيضا [ ص: 236 ] يقولون : ما نعم به الكافر فهو نعمة تامة كما نعم به المؤمن سواء ؛ إذ ليس عندهم لله نعمة خص بها المؤمن دون الكافر أصلا ، بل هما في النعم الدينية سواء ، وهو ما بينه من أدلة الشرع والعقل ، وما خلقه من القدرة والألطاف ، ولكن أحدهما اهتدى بنفسه بغير نعمة أخرى خاصة من الله ، والآخر ضل بنفسه بغير خذلان يخصه من الله . وكذلك النعم الدنيوية هي في حقهما على السواء .

والذين ناظروا هؤلاء من أهل الإثبات ربما زادوا في المناظرة نوعا من الباطل ، وإن كانوا في الأكثر على الحق ، فكثيرا ما يرد مناظر المبتدع باطلا عظيما بباطل دونه ، ولهذا كان أئمة السنة ينهون عن ذلك ، ويأمرون بالاقتصاد ولزوم السنة المحضة ، وأن لا يرد باطل بباطل دونه ، فقال كثير من هؤلاء : ليس لله على الكافر نعمة دنيوية ، كما ليس له عليه نعمة دينية محضة ، إذ اللذة المتعقبة ألما أعظم منها ليست بنعمة ، كالطعام المسموم ، وكمن أعطى غيره أموالا ليطمئن ثم يقتله أو يعذبه .

قالوا : والكافر كانت هذه النعم سببا لعذابه وعقابه ، كما قال تعالى : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [آل عمران :178] ، وقال تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [المؤمنون :55 - 56] ، وقال : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء [ ص: 238 ] حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [الأنعام :44] . وقال تعالى : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [القلم :44 - 45] .

وخالفهم آخرون من أهل الإثبات والقدر أيضا ، وقالوا : بل لله على الكافر نعم دنيوية . والقولان في عامة أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم .

قال هؤلاء : والقرآن قد دل على امتنانه على الكفار بنعمه ، ومطالبته إياهم بشكرها ، فكيف يقال : ليست نعما ؟ قال تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا [إبراهيم :28] إلى قوله : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ، إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم :32 - 34] . وقال تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [الإنسان :3] . وكيف يكون كفورا من لم ينعم عليه ؟!

قالوا : ولازم قول هؤلاء أن الكفار لم يجب عليهم شكر الله ؛ إذ لم يكن قد أنعم عليهم عندهم . وهذا القول يعلم فساده بالاضطرار من دين [ ص: 239 ] الإسلام ، فإن الله قد ذم الإنسان بكونه كفارا غير شكور ، إذ يقول : إن الإنسان لربه لكنود [العاديات :6] ، وقال : ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور [هود :9 - 10] ، وقد قال هود عليه السلام لقومه : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون [الأعراف :69] ، وقال صالح لقومه : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين [الأعراف :74] . وقال في الآية الأخرى : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إلى قوله : واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون [الشعراء :123 - 134] . وقال تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا [إبراهيم :28] . وقال : وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله [النحل :112] ، وقال : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها إلى قوله : كذلك يتم نعمته عليكم إلى قوله : يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون [ ص: 240 ] [النحل :80 - 83] .

قال الأولون : وقد قال تعالى : صراط الذين أنعمت عليهم [الفاتحة :7] ، والكفار لم يدخلوا في هذا العموم ، فعلم أنهم خارجون من النعمة . وقد قال في خطابه للمؤمنين : كلوا من طيبات ما رزقناكم [البقرة :57] ، وقال تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم في آيات كثيرة ، وقال : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به [المائدة :7] . وقال : كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله [البقرة :172] .

التالي السابق


الخدمات العلمية