الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 129 ] ( ومن باب الإشارة في الآيات ) ويا آدم اسكن أنت وزوجك أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الأدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك ولشرفآدم عليه السلام وجه النداء إليه وزوجه تبع له في السكنى . الجنة هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس فكلا من حيث شئتما حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية ولا تقربا هذه الشجرة أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما فتكونا من الظالمين الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحنة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال : إن هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه السلام كما خمر طينته بيده لها :


                                                                                                                                                                                                                                      فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها



                                                                                                                                                                                                                                      وإن المنع كان تحريضا على تناولها فالمرء حريص على ما منع واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما تكلف فإن أردته فارجع إليه فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أوهمهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذاتا ملكية وخلودا فيها أو ملكا ورياسة على القوى بغير زوال إن قرئ ( ملكين ) بكسر اللام .

                                                                                                                                                                                                                                      فدلاهما فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها بغرور بما غرهما من كأس القسم المترعة من حميا ذكر الحبيب فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما والقليل منها بالنسبة إليهما كثير وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة أي يكتمان هاتيك السوآت والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية وناداهما ربهما ألم أنهكما بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه قالا ربنا ظلمنا أنفسنا بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها : وإن لم تغفر لنا بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها علينا وترحمنا بإفاضة المعارف الحقيقية لنكونن من الخاسرين الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي قال اهبطوا إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني بعضكم لبعض عدو لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية .

                                                                                                                                                                                                                                      وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا وهو لباس الشريعة يواري سوآتكم يستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم بشعاره ودثاره وريشا زينة وجمالا في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات ولباس التقوى أي صفة الورع والحذر من صفات النفس ذلك خير من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء ويقال : لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول [ ص: 130 ] منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوءة الطمع وما فيها ولباس الثاني محبة ذي المجد الأسنى ويتوارى به سوءة التعلق بالسوى ولباس الثالث رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سوءة رؤية غيره في الأولى والأخرى ولباس الرابع البقاء بهوية ذي القدس الأسنى ويتوارى به سوءة هوية ما في السموات وما في الأرض وما تحت الثرى قيل : وهذا إشارة إلى الحقيقة وربما يقال : اللباس المواري للسوآت إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها حسن الأخلاق وبذلك يتزين الإنسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوى وهو أكمل أنواع التقوى ذلك أي لباس التقوى من آيات الله أي من أنوار صفاته سبحانه إذ التوقي من صفات النفس لا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى ( لعلكم تذكرون ) عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما الفطري النوري إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني .

                                                                                                                                                                                                                                      قل أمر ربي بالقسط بالعدل وهو الصراط المستقيم وأقيموا وجوهكم أي ذواتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط عند كل مسجد أي مقام سجود أو وقته والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالإخلاص وترك الالتفات إلى السوى ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه عنده بأن لا يرى مؤثرا غير الله تعالى أصلا وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لا يكره شيئا من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخيط على المخالف والتعيير له والاستخفاف به وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الأنية والإثنينية فلا يطغى بحجاب الأنية ولا يتزندق بالإباحة وترك الإطاعة .

                                                                                                                                                                                                                                      وادعوه مخلصين له الدين بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه كما بدأكم أظهركم بإفاضة هذه التعينات عليكم تعودون إليه أو كما بدأكم لطفا أو قهرا تعودون إليه فيعاملكم حسبما بدأكم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة كما ثبت ذلك في علمه إنهم اتخذوا الشياطين من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية أولياء من دون الله للمناسبة التامة بين الفريقين ويحسبون أنهم مهتدون لقوة سلطان الوهم يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد فأخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة حقوق الاستقامة ولكل مقام مقال وكلوا واشربوا ولا تسرفوا بالإفراط والتفريط فإن العدالة صراط الله تعالى المستقيم .

                                                                                                                                                                                                                                      قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده أي منع عنها وقال : لا يمكن التزين بها والطيبات من الرزق كعلوم الإخلاص ومقام التوكل والرضا والتمكين قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات قل إنما حرم ربي الفواحش رذائل [ ص: 131 ] القوة البهيمية ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي رذائل القوة السبعية وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة ولكل أمة أجل ينتهون عنده إلى مبدئهم فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون لأن وقوع ما يخالف العلم محال يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم من جنسكم وقيل : هي العقول وقال النيسابوري : التأويل إما يأتينكم إلهامات من طريق قلوبكم وأسراركم وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته فمن اتقى في الفناء وأصلح بالاستقامة عند البقاء فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لوصولهم إلى مقام الولاية والذين كذبوا بآياتنا أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم واستكبروا عنها بالاتصاف بالرذائل أولئك أصحاب النار نار الحرمان هم فيها خالدون لسوء ما طبعوا عليه فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا بأن قال : أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات أو كذب بآياته بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم إن الذين كذبوا بآياتنا الدالة علينا واستكبروا عنها ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم لا تفتح لهم أبواب السماء فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت ولا يدخلون الجنة أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة حتى يلج الجمل أي جمل أنفسهم المستكبرة في سم الخياط أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق: وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جدا وقد يقال : الخياط إشارة إلى خياط الشريعة والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لا بد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم لهم من جهنم الحرمان مهاد ومن فوقهم غواش أي أن الحرمان أحاط بهم وقيل : لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم ونادى أصحاب الجنة المرحومون أصحاب النار المحرمون أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد حقا فأذن مؤذن وهو مؤذن العزة والعظمة بينهم أن لعنة الله على الظالمين الواضعين الشيء في غير موضعه الذين يصدون السالكين عن سبيل الله أي الطريق الموصلة إليه سبحانه وقيل : يصدون القلب والروح عن ذلك ويبغونها عوجا بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق وقيل : يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها وهم بالآخرة أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى كافرون لمزيد احتجابهم بما هم فيه وبينهما أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار حجاب فكل منهم محجوب عن صاحبه وعلى الأعراف أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب رجال وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته وقيل : وإنما سموا رجالا لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عز وجل تصرف الرجال بالنساء ولا يتصرف فيهم من ذلك يعرفون كلا بسيماهم لما أعطوا من نور الفراسة ونادوا أصحاب الجنة : أي جنة ثواب الأعمال أن سلام عليكم بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار وقيل : [ ص: 132 ] إن سلامهم على أهل الجنة بإمدادهم بأسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم لم يدخلوها أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم إليها وهم يطمعون في كل وقت بما هو أعلى وأغلى وقيل : هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ليعتبروا قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ ونادى أصحاب الأعراف رجالا من رؤساء أهل النار وإطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الأعراف كإطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه السلام أهؤلاء إشارة إلى أهل الجنة ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أي الحياة التي أنتم فيها : أو مما رزقكم الله أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به ما نلتم قالوا إن الله حرمهما في الأزل على الكافرين لسوء استعدادهم وقيل : إن الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وأدخلوا النار على ما ماتوا طلبوا الماء أو الطعام ولقد جئناهم بكتاب وهو النبي صلى الله عليه وسلم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا فصلناه أي أظهرنا منه ما أظهرنا على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون لأنهم المنتفعون منه وإن كان من جهة أخرى رحمة للعالمين هل ينظرون إلا تأويله أي ما يؤول إليه عاقبة أمره وقيل : الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الإنساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه : سيجزيهم وصفهم وكما قال سبحانه : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور إشارة إلى الآفاق والأنفس وما يؤول إليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية