الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 283 ] 82 - باب

                                إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة

                                فيه ثلاثة أحاديث :

                                699 732 - حدثنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فجحش شقه الأيمن ، قال أنس : فصلى لنا يومئذ صلاة من الصلوات وهو قاعد ، فصلينا وراءه قعودا ، ثم قال لما سلم : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا صلى قائما فصلوا قياما ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ) .

                                700 733 - حدثنا قتيبة ، ثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، قال : خر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش ، فصلى لنا قاعدا ، فصلينا معه قعودا ، ثم انصرف ، فقال : ( إنما الإمام - أو إنما جعل الإمام - ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ) .

                                701 734 - حدثنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، حدثني أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ) .

                                التالي السابق


                                حديث أنس ، ساقه من طريقين :

                                [ ص: 284 ] من طريق شعيب ، عن الزهري ، وفيه التصريح بسماع الزهري له من أنس .

                                ومن طريق الليث ، عن الزهري ، وليس فيه ذلك .

                                وقد تقدم من حديث مالك ، عن الزهري كذلك .

                                وليس في حديث مالك ولا شعيب ذكر التكبير ، وهو في حديث الليث وحده .

                                وقد خرجه مسلم بهذه الزيادة من طريق ابن عيينة وغيره ، عن الزهري .

                                وخرجه البخاري بها - أيضا - فيما تقدم من طريق حميد ، عن أنس .

                                وخرجه هاهنا من حديث أبي هريرة ، أيضا .

                                وهذه اللفظة هي مقصوده من هذه الأحاديث في هذا الباب ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من يصلي خلف الإمام أن يكبر إذا كبر الإمام ، فدل على أن التكبير واجب على المأموم ، فدخل في ذلك تكبيرة الإحرام وغيرها - أيضا - من التكبير .

                                ويأتي الكلام في التكبير غير تكبيرة الإحرام في غير هذا الموضع -إن شاء الله تعالى- ، وإنما المقصود هنا تكبيرة الإحرام .

                                وقوله : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) قد فسره بمتابعة الإمام في أقواله وأفعاله .

                                وقد أدخل طائفة من العلماء متابعته في نيته ، وقد سبق القول في ذلك .

                                وأدخل بعضهم - أيضا - متابعته في ترك بعض أفعال الصلاة المسنونة ، كرفع [ ص: 285 ] اليدين ، فقال : لا يرفع المأموم يديه إلا إذا رفع الإمام ، وهو قول أبي بكر بن أبي شيبة .

                                والجمهور على خلاف ذلك ، وأن المأموم يتابع إمامه فيما يفعله ، ويفعل ما تركه من السنن عمدا أو سهوا ، كرفع اليدين والاستفتاح والتعوذ والتسمية وغير ذلك ، فيما لا يفعله بعض الأئمة معتقدا له ، فكل هذا يفعله المأموم ، ولا يقتدي بإمامه في تركه .

                                ومما يدخل في ائتمام المأموم بإمامه : أنه لا يتخلف عنه تخلفا كثيرا ، بل تكون أفعال المأموم عقب أفعال إمامه ، حتى السلام .

                                وقد نص أحمد على أن الإمام إذا سلم وقد بقي على المأموم شيء من الدعاء ، فإنه يسلم معه ، إلا أن يكون بقي عليه شيء يسير ، فيأتي به ويسلم ، واستدل بقوله : ( إنما الإمام ليؤتم به ) .

                                وقوله : ( فإذا كبر فكبروا ) يدل على أن المأموم لا يكبر إلا بعد تكبير الإمام عقيبه ، وقد سبق الكلام على هذه المسألة مستوفى .

                                وكان ذكر حديث أبي هريرة في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته ، وقوله : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة وكبر ) وذكر الحديث - وقد خرجه البخاري في موضع آخر - أولى من ذكر : ( إذا كبر فكبروا ) ؛ فإن هذا الحديث إنما فيه أمر المأموم بالتكبير ، وأما تكبير الإمام فليس فيه الأمر به ، بل فيه ما يشعر بأنه لا بد من فعله كركوعه وسجوده .

                                وحينئذ فيستدل بحديث أنس على أنه لا بد للإمام من التسميع ، وأن المأموم مأمور بالتحميد عقيب تسميعه .

                                وأما حديث تعليم المسيء ، ففيه تصريح بالأمر لكل قائم إلى الصلاة أن [ ص: 286 ] يكبر ، وسواء كان إماما أو مأموما أو منفردا .

                                وأما حديث : ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) فليس هو من شرط البخاري ، مع تعدد طرقه .

                                وكذلك حديث عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير .

                                خرجه مسلم من طريق حسين المعلم ، عن بديل بن ميسرة ، عن أبي الجوزاء ، عن عائشة .

                                وخالفه حماد بن زيد ، فرواه عن بديل ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة .

                                ومقصود البخاري : أن الصلاة لا تفتتح إلا بالتكبير ، ولا تنعقد بدونه .

                                وقد روي عن ابن مسعود وابن عباس والشعبي ، قالوا : تحريم الصلاة التكبير .

                                وروي عن ابن المسيب وبكير بن الأشج والنخعي فيمن نسي تكبيرة الاستفتاح : يستأنف الصلاة .

                                وهو قول الثوري وابن المبارك ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم .

                                وقال الحكم وأبو حنيفة وعامة أصحابه : تنعقد الصلاة بكل لفظ من ألفاظ الذكر ، كالتهليل والتسبيح .

                                وعن النخعي ، قال : يجزئه ، ويسجد للسهو .

                                وعن الشعبي ، قال : بأي أسماء الله تعالى افتتحت الصلاة أجزأك .

                                وفي الإسناد إليه مجهول .

                                [ ص: 287 ] خرجه ابن أبي شيبة في ( كتابه ) .

                                وهو رواية عن الثوري ، رواها عنه النعمان بن عبد السلام .

                                وحكى ابن المنذر ، عن الزهري ، أن الصلاة تنعقد بمجرد النية ، ولا تحتاج إلى لفظ بالكلية .

                                قلت : وروي نحوه - أيضا - عن عطاء :

                                قال عبد الرزاق : عن ابن جريج ، قلت لعطاء : أقيمت الصلاة وأنا مع الناس ، فكبر الإمام ورفع من الركعة ، ولم أكبر في ذلك ؟ قال : إن كنت قد اعتدلت في الصف فاعتد بها ، وإن كنت لم تزل تتحدث حتى ركع ورفع رأسه من الركعة فكبر ثم اركع واعتد بها ، وإن كنت لم تعتدل في الصف فلا .

                                وعن ابن جريج ، عن عطاء ، في رجل دخل المسجد والإمام ساجد ، أو حين رفع رأسه من الركعة أو السجدة ، أو جالسا يتشهد : يكبر تكبيرة استفتاح الصلاة ؟ قال : إن شاء فليكبر ، وإن شاء فلا يكبر ، ولكن إذا قام وقد قام الإمام فليكبر ويستفتح .

                                وروى - أيضا - عن معمر ، عن قتادة ، في رجل انتهى إلى قوم وهم جلوس في آخر صلاتهم ؟ قال : يجلس معهم ، ولا يكبر .

                                ولعله أراد : أنه يكتفي بتكبيره إذا قام إلى القضاء ، فلا يكون قبل ذلك قد دخل في الصلاة .

                                وقريب من هذا : أنه قد روي عن طائفة من السلف ، أن من نسي تكبيرة الافتتاح في الصلاة ، فإنه تجزئه تكبيرة الركوع ، روي هذا عن سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم والأوزاعي ، وهو رواية عن حماد بن [ ص: 288 ] أبي سليمان ، حكاه ابن المنذر وغيره .

                                وروي عن الزهري ، أنه قال : يسجد للسهو إذا سها .

                                وهذا يحتاج إلى تحقيق ونظر في مأخذ ذلك .

                                وظاهر ما حكاه ابن المنذر عن هؤلاء : أنهم رأوا تكبيرة الركوع تقوم مقام تكبيرة الافتتاح في انعقاد الصلاة بها ، وهو ظاهر كلامهم - أيضا - ، حيث قالوا : تجزئه تكبيرة الركوع ، وتنعقد بها الصلاة ، وقال بكر المزني : يكبر إذا ذكر .

                                وظاهر كلامهم : أنه عام في حق الإمام والمأموم والمنفرد ، وقد روي عن الحكم صريحا في الإمام ، فأما في حق الإمام والمنفرد فيحتمل وجهين :

                                أحدهما : أن تكون الصلاة انعقدت بمجرد النية ، كما روي عن الزهري .

                                والثاني : أن تكون الصلاة إنما انعقدت بتكبيرة الركوع ، وتكون القراءة ساقطة عنهما في هذه الركعة ، بناء على أن القراءة لا تجب في جميع الركعات ، وهذا هو الذي يتبادر فهمه من كلامهم .

                                وهو قول سفيان الثوري ، ذكره أصحابه في كتبهم ، لكنه يشترط : أن ينوي بتكبيرته عند الركوع تكبيرة الإحرام ، كما سيأتي قوله في ذلك .

                                وأما قول بكر المزني : ( يكبر إذا ذكر ) ، فإن أراد ما لم يركع ، فهو يرجع إلى ما ذكرنا ، وإن كان مراده أعم من ذلك ، فلا يرجع إلا إلى أن الصلاة يدخل فيها بمجرد النية - أيضا - إلا أن يكون أراد أنه يكبر متى ما ذكر ، ويستأنف الصلاة من حينئذ .

                                وأما في حق المأموم ، فقد وافق من تقدم ذكره على قولهم يجزئه تكبيرة الركوع ، مالك وأحمد في رواية عنهما .

                                فذكر مالك في ( الموطأ ) في الإمام والمنفرد أنهما إذا نسيا تكبيرة الإحرام [ ص: 289 ] يبتدئان الصلاة ، وفي المأموم إذا نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع : رأيت ذلك مجزئا عنه .

                                قال ابن عبد البر : قال الزهري والأوزاعي وطائفة : تكبيرة الإحرام ليست بواجبة .

                                وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول ، ولم يختلف قوله في الإمام والمنفرد : أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحد منهما ، والصحيح من مذهبه : إيجاب تكبيرة الإحرام ، وأنها فرض ركن من أركان الصلاة .

                                قلت : يمكن أن يحمل ما نقل عن السلف ، أو عن بعضهم في ذلك على المأموم خاصة ، وكذلك حكاه عنهم ابن عبد البر في المأموم خاصة ، وهذا أشبه وأظهر .

                                ويدل عليه : ما خرجه حرب بإسناده ، عن خليد ، عن الحسن وقتادة قالا : إن نسيت تكبيرة الاستفتاح وكبرت للركوع وأنت مع الإمام فقد مضت صلاتك .

                                وبإسناده ، عن الوليد بن مسلم ، قال أبو عمرو - يعني : الأوزاعي - فيمن نسي تكبيرة الاستفتاح : إن كان وحده استأنف الصلاة ، وإن كان مع الإمام أجزأته تكبيرة الركوع ، وكان كمن أدرك ركعة الإمام فكبر تكبيرة ، وأمكن كفيه من ركبتيه ، ورفع الإمام رأسه فقد أجزأته تلك الركعة .

                                قال الوليد : فقلت لأبي عمرو : فإن نسي تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع ؟ فأخبرني أن ابن شهاب قال : يضيف إلى صلاته ركعة ، ولا يعتد بتلك الركعة التي لم يكبر لها .

                                وقال أبو عمرو : وإذا كان وحده ، فنسي الأولى والآخرة أعاد الصلاة ، وإذا كان مع الإمام أضاف إلى صلاته ركعة أخرى .

                                [ ص: 290 ] فقد فرق الأوزاعي بين المنفرد والمأموم ، وأما الزهري فلم يفرق .

                                والتفريق بينهما له مأخذان :

                                أحدهما : أن الإمام يتحمل عن المأموم التكبير ، كما يتحمل عنه القراءة ، وقد صرح بهذا المأخذ الإمام أحمد .

                                قال حنبل : سألت أبا عبد الله عن قول : إذا سها المأموم عن تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع رأيت ذلك مجزئا عنه ؟ فقال أبو عبد الله : يجزئه إن كان ساهيا ؛ لأن صلاة الإمام له صلاة .

                                فصرح بالمأخذ ، وهو تحمل الإمام عنه تكبيرة الإحرام في حال السهو .

                                ذكر هذه الرواية أبو بكر عبد العزيز في ( كتاب الشافي ) ، وهذه رواية غريبة عن أحمد ، لم يذكرها الأصحاب .

                                والمذهب عندهم : أنه لا يجزئه ، كما لا يجزئ الإمام والمنفرد ، وقد نقله غير واحد عن أحمد .

                                ونقل إسماعيل بن سعيد ، عن أحمد فيمن ترك تكبيرة الافتتاح في الصلاة ؟ قال : إن تركها عمدا لم تجزئه صلاته .

                                ومفهومه : أنه إن تركها سهوا أجزأته صلاته .

                                وينبغي حمل ذلك على المأموم خاصة ، كما نقله حنبل .

                                وهذا المأخذ هو مأخذ من فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد ، كالأوزاعي ؛ ولهذا طرد قوله في المأموم ينسى تكبيرة الافتتاح مع تكبيرة الركوع ، وقال : إن صلاته جائزة ، ويقضي ركعة .

                                ولو كان مأخذه : أن صلاته انعقدت بالتكبيرة في الركعة الثانية لم يكن بين الإمام والمأموم فرق .

                                [ ص: 291 ] وهو - أيضا - مأخذ مالك وأصحابه .

                                وفي ( تهذيب المدونة ) : وإن ذكر مأموم أنه نسي تكبيرة الإحرام ، فإن كان كبر للركوع ونوى بها تكبيرة الإحرام أجزأه ، فإن كبرها ولم ينو بها ذلك تمادى مع الإمام ، وأعاد صلاته احتياطا ؛ لأنه لا يجزئه عند ربيعة ، ويجزئه عند ابن المسيب ، وإن لم يكبر للركوع ولا للافتتاح حتى ركع الإمام ركعة ركعها معه ، وابتدأ التكبير ، وكان الآن داخلا في الصلاة ، ويقضي ركعة بعد سلام الإمام ، ولو كان وحده ابتدأ متى ذكر ، قبل ركعة أو بعد ركعة ، نوى بتكبيرة الركوع الإحرام أم لا ، وكذلك الإمام لا يجزئه إن نوى بتكبيرة الإحرام الركوع ، فإن فعل أعاد هو ومن خلفه . انتهى .

                                وهذا التفريق ، إنما هو لتحمل الإمام القراءة .

                                وما ذكر من أن المسبوق إن لم ينو بتكبيرته عند الركوع الإحرام يتمادى مع الإمام ، ويعيد صلاته احتياطا ، مخالف لما نص عليه مالك في ( الموطأ ) : أنه تجزئه صلاته إذا سها عن تكبيرة الافتتاح .

                                ولكن في بعض روايات ( الموطأ ) عن مالك ، أنه اشترط في هذا الموضع نية الافتتاح ، أيضا .

                                وذكر ابن عبد البر : أن أصحاب مالك اضطربوا في هذه المسألة اضطرابا عظيما ، ونقضوا أصلهم في وجوب تكبيرة الإحرام في حق المأموم ؛ لأجل الاختلاف فيه .

                                وقد قال مالك في ( الموطأ ) : إن المأموم إذا نسي تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وكبر في الثانية ، أنه يبتدئ صلاته أحب إلي .

                                فظاهر هذا : أنه لم يوجب عليه الإعادة للاختلاف في تحمل الإمام عنه [ ص: 292 ] التكبير ، وهذا يدل على أنه رأى الاختلاف في حق المأموم خاصة ؛ فإنه قال في المنفرد : يعيد صلاته جزما .

                                والمأخذ الثاني : وقد بنى ما روي عن السلف عليه طائفة من العلماء ، منهم : عباس العنبري ، وهو : أن المأموم إذا أدرك الإمام في الركوع فكبر تكبيرة واحدة ، فإنه تجزئه وتنعقد صلاته عند جمهور العلماء ، وفيه خلاف عن ابن سيرين وحماد بن أبي سليمان .

                                وحكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد أنه لا يصح حتى يكبر تكبيرتين ، ولا يصح هذا عن أحمد .

                                فعلى قول الجمهور : إذا كبر تكبيرة واحدة ، فله أربعة أحوال :

                                إحداها : أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح ، فتجزئه صلاته بغير توقف .

                                الحالة الثانية : أن ينوي تكبيرة الركوع خاصة ، فلا تجزئه عند الأكثرين ، قاله الثوري ومالك .

                                ونص عليه أحمد في رواية أبي الحارث ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تحريمها التكبير ) ، وهذا لم يحرم بالصلاة .

                                فإن كان ساهيا عن تكبيرة الإحرام ، فقال مالك في ( الموطأ ) : تجزئه .

                                وهو رواية حنبل عن أحمد .

                                ولا تجزئه عند الثوري ، وهو المشهور عن أحمد ومذهب الأكثرين .

                                الحالة الثالثة : أن ينويهما معا ، ففيه قولان :

                                أحدهما : تجزئه ، حكي عن أبي حنيفة ومالك وأبي ثور ، وحكي رواية عن أحمد ، اختارها ابن شاقلا .

                                والثاني : لا تجزئه ، وهو المشهور عند أصحابنا ، وقول الشافعي وإسحاق .

                                [ ص: 293 ] الحالة الرابعة : أن لا ينوي شيئا ، بل يطلق النية ، فهل تجزئه ، أم لا ؟ فيه قولان :

                                أحدهما : لا تجزئه حتى ينوي بها الافتتاح ؛ فإنه قد اجتمع في هذا المحل تكبيرتان ؛ إحداهما فرض ، فاحتاج الفرض إلى تمييزه بالنية ، بخلاف تكبير الإمام أو المنفرد أو المأموم إذا أدرك الإمام قبل الركوع ، فإنه لم يجتمع في حقه تكبيرتان في وقت واحد .

                                وهذا القول حكي عن أبي حنيفة ، وهو قول الثوري ومالك وإسحاق ، ونقله ابن منصور وغير واحد عن أحمد .

                                وقاله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا في ( كتاب الشافي ) والقاضي أبو يعلى في ( جامعه الكبير ) ، وجعله المذهب رواية واحدة ، وتأول ما خالف ذلك عن أحمد .

                                والثاني : تجزئه وإن أطلق النية ، نقله ابن منصور - أيضا - عن أحمد ، ونقله - أيضا - صالح ومهنا وأبو طالب عن أحمد .

                                وقال : ما علمنا أحدا قال : ينوي بها الافتتاح .

                                يشير إلى الصحابة والتابعين .

                                وعلل : بأنه خرج من بيته وهو يريد الصلاة .

                                يشير إلى أن نية الصلاة موجودة معه ؛ بخروجه إلى الصلاة ، فلا يكبر للصلاة إلا بتلك النية ، ولا يكبر للركوع إلا من دخل في الصلاة ، فأما من لم يكن دخل فيها فإنما يكبر لدخوله في الصلاة أولا ، ولا يضره عدم استحضاره لهذه النية عند التكبيرة ؛ لأن تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير جائز عنده .

                                وللشافعي قولان في هذه المسألة .

                                وقد يجاب عن قول من قال : إنه قد اجتمع في حقه تكبيرتان بأنهما لم [ ص: 294 ] تجتمعا عليه ؛ فإن تكبيرة الافتتاح محلها القيام ، وتكبيرة الركوع محلها الانحناء للركوع ، فلم تجتمعا في محل واحد .

                                وهذا بناء على أنه لا تنعقد صلاة مدرك الركوع ، إلا بالتكبير قائما ، وهو قول الشافعي وإسحاق وأصحابنا .

                                وحكى صاحب ( شرح المهذب ) أنه رواية عن مالك ، قال : والمشهور عنه : أنه تنعقد صلاته إذا كبر وهو مسبوق في حال الركوع ، قال : وهو نصه في ( المدونة ) و : ( الموطأ ) .

                                قلت : هذا مقتضى الرواية عن مالك في المأموم إذا نسي تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع : أنه تجزئه ، كذا رواه القعنبي وغيره عن مالك .

                                ورواه يحيى بن يحيى ، عن مالك ، بشرط أن ينوي بها الافتتاح .

                                فينبغي على هذا : أن لا يأتي بها إلا قائما .

                                أو مقتضى قول من قال : تجزئه تكبيرة الركوع عن تكبيرة الإحرام : أنه تنعقد الصلاة بالتكبير في حال الركوع ؛ لأن تكبيرة الركوع إنما تكون في حال الانحناء للركوع .

                                وقد روى عبد الرزاق في ( كتابه ) عن ابن جريج ، قال : أخبرت عن ابن مسعود ، أنه كان يقول : إذا وجدت الإمام والناس جلوسا في آخر الصلاة فكبر قائما ، ثم اجلس وكبر حين تجلس ، فتلك تكبيرتان : الأولى وأنت قائم لاستفتاح الصلاة ، والأخرى حين تجلس ؛ كأنها للسجدة .

                                وهذا منقطع .

                                وهذا التفسير كأنه من قول ابن جريج .

                                [ ص: 295 ] وروى وكيع ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن الزهري ، عن عروة وزيد بن ثابت ، أنهما كانا يجيئان والإمام راكع ، فيكبران تكبيرة الافتتاح ، لافتتاح الصلاة وللركعة .

                                إبراهيم هذا ، فيه مقال .

                                وقد رواه معمر وإبراهيم بن سعد وابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن ابن عمر وزيد بن ثابت ، قالا : تجزئه تكبيرة واحدة .

                                وروي عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر وزيد .

                                فيصير إسناده متصلا .

                                وليس في رواية أحد منهم أنه يكبر للافتتاح ، وهذا أصح إن شاء الله تعالى .



                                الخدمات العلمية