الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

                                                                                                                                                                                                                                        (105 - 110) يذكر تعالى تكذيب قوم نوح لرسولهم نوح، وما رد عليهم وردوا عليه، وعاقبة الجميع فقال: كذبت قوم نوح المرسلين جميعهم، لأن تكذيب نوح كتكذيب جميع المرسلين؛ لأنهم كلهم اتفقوا على دعوة واحدة، وأخبار واحدة، فتكذيب أحدهم تكذيب بجميع ما جاءوا به من الحق.

                                                                                                                                                                                                                                        كذبوه إذ قال لهم أخوهم في النسب نوح وإنما ابتعث الله الرسل من نسب من أرسل إليهم؛ لئلا يشمئزوا من الانقياد له؛ ولأنهم يعرفون حقيقته، فلا يحتاجون أن يبحثوا عنه، فقال لهم مخاطبا بألطف خطاب -كما هي طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم- : ألا تتقون الله تعالى، فتتركون ما أنتم مقيمون عليه من عبادة الأوثان، وتخلصون العبادة لله وحده، إني لكم رسول أمين فكونه رسولا إليهم بالخصوص يوجب لهم تلقي ما أرسل به إليهم والإيمان به، وأن يشكروا الله تعالى على أن خصهم بهذا الرسول الكريم، وكونه أمينا يقتضي أنه لا يقول على الله، ولا يزيد في وحيه ولا ينقص، وهذا يوجب لهم التصديق بخبره [ ص: 1225 ] والطاعة لأمره، فاتقوا الله وأطيعون فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، فإن هذا هو الذي يترتب على كونه رسولا إليهم أمينا، فلذلك رتبه بالفاء الدالة على السبب، فذكر السبب الموجب، ثم ذكر انتفاء المانع، فقال: وما أسألكم عليه من أجر فتتكلفون من المغرم الثقيل، إن أجري إلا على رب العالمين أرجو بذلك القرب منه، والثواب الجزيل، وأما أنتم فمنيتي ومنتهى إرادتي منكم النصح لكم، وسلوككم الصراط المستقيم فاتقوا الله وأطيعون كرر ذلك عليه السلام؛ لتكريره دعوة قومه، وطول مكثه في ذلك، كما قال تعالى: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وقال: رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا الآيات.

                                                                                                                                                                                                                                        (111) فقالوا ردا لدعوته ومعارضة له بما ليس يصلح للمعارضة: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون أي: كيف نتبعك ونحن لا نرى أتباعك إلا أسافل الناس وأراذلهم وسقطهم، بهذا يعرف تكبرهم عن الحق، وجهلهم بالحقائق، فإنهم لو كان قصدهم الحق لقالوا - إن كان عندهم إشكال وشك في دعوته - بين لنا صحة ما جئت به بالطرق الموصلة إلى ذلك، ولو تأملوا حق التأمل لعلموا أن أتباعه هم الأعلون، خيار الخلق، أهل العقول الرزينة والأخلاق الفاضلة، وأن الأرذل من سلب خاصية عقله، فاستحسن عبادة الأحجار، ورضي أن يسجد لها ويدعوها، وأبى الانقياد لدعوة الرسل الكمل، وبمجرد ما يتكلم أحد الخصمين في الكلام الباطل يعرف فساد ما عنده بقطع النظر عن صحة دعوى خصمه، فقوم نوح لما سمعنا عنهم أنهم قالوا في ردهم دعوة نوح: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون فبنوا على هذا الأصل - الذي كل أحد يعرف فساده - رد دعوته، عرفنا أنهم ضالون مخطئون، ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة ما يفيد الجزم واليقين بصدقه وصحة ما جاء به.

                                                                                                                                                                                                                                        (112 - 115) فقال نوح عليه السلام: وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون أي: أعمالهم وحسابهم على الله، إنما علي التبليغ وأنتم دعوهم عنكم، إن كان ما جئتكم به الحق فانقادوا له وكل له عمله، وما أنا بطارد المؤمنين كأنهم - قبحهم الله - طلبوا منه أن يطردهم عنه [ ص: 1226 ] تكبرا وتجبرا؛ ليؤمنوا فقال: وما أنا بطارد المؤمنين فإنهم لا يستحقون الطرد والإهانة، وإنما يستحقون الإكرام القولي والفعلي كما قال تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ، إن أنا إلا نذير مبين أي: ما أنا إلا منذر ومبلغ عن الله ومجتهد في نصح العباد، وليس لي من الأمر شيء إن الأمر إلا لله.

                                                                                                                                                                                                                                        (116) فاستمر نوح - عليه الصلاة والسلام - على دعوتهم ليلا ونهارا، سرا وجهارا، فلم يزدادوا إلا نفورا و قالوا لئن لم تنته يا نوح من دعوتك إيانا إلى الله وحده لتكونن من المرجومين أي: لنقتلنك شر قتلة بالرمي بالحجارة، كما يقتل الكلب، فتبا لهم، ما أقبح هذه المقابلة! يقابلون الناصح الأمين الذي هو أشفق عليهم من أنفسهم بشر مقابلة. (117 - 118) لا جرم لما انتهى ظلمهم واشتد كفرهم دعا عليهم نبيهم بدعوة أحاطت بهم فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا الآيات، وهنا قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا أي: أهلك الباغي منا وهو يعلم أنهم البغاة الظلمة، ولهذا قال: ونجني ومن معي من المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                        (119 - 122 فأنجيناه ومن معه في الفلك أي: السفينة المشحون من الخلق والحيوانات، ثم أغرقنا بعد أي: بعد نوح ومن معه من المؤمنين الباقين أي: جميع قومه.

                                                                                                                                                                                                                                        إن في ذلك أي: نجاة نوح وأتباعه وإهلاك من كذبه لآية دالة على صدق رسلنا وصحة ما جاءوا به، وبطلان ما عليه أعداؤهم المكذبون بهم، وإن ربك لهو العزيز الذي قهر بعزه أعداءه فأغرقهم بالطوفان الرحيم بأوليائه، حيث نجى نوحا ومن معه من أهل الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية