الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 281 ] القول في تأويل قوله ( ولقد صدقكم الله وعده )

قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " ولقد صدقكم الله " ، أيها المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأحد وعده الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

و"الوعد " الذي كان وعدهم على لسانه بأحد ، قوله للرماة : "اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا ، وإن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " . وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره ، كالذي : -

8004 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد ، أمر الرماة ، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال : "لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ، " وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوات بن جبير . ثم إن طلحة بن عثمان ، صاحب لواء المشركين ، قام فقال : يا معشر أصحاب محمد ، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة! فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة! أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيده ، لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار ، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة! فضربه علي فقطع رجله ، فسقط ، فانكشفت عورته ، فقال : أنشدك الله والرحم ، ابن عم! فتركه . [ ص: 282 ] فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لعلي أصحابه : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته ، فاستحييت منه .

ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان . فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل ، فرمته الرماة ، فانقمع . فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه ، بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم! . فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر . فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ، ثم حمل فقتل الرماة ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل ، تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم . .

8005 - حدثنا هارون بن إسحاق قال : حدثنا مصعب بن المقدام قال : حدثنا إسرائيل قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : لما كان يوم أحد ولقينا المشركين ، أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا بإزاء الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، أخا خوات بن جبير ، وقال لهم : " لا تبرحوا مكانكم ، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا " . فلما التقى القوم ، هزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن وبدت خلاخلهن ، فجعلوا يقولون : "الغنيمة ، الغنيمة "! قال عبد الله : مهلا! أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأبوا ، فانطلقوا ، فلما أتوهم صرف الله وجوههم ، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلا . [ ص: 283 ]

8006 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، بنحوه .

8007 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " ، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحدا ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الناس ، فاجتمعوا ، وأمر على الخيل الزبير بن العوام ، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلا من قريش يقال له : مصعب بن عمير . وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر ، وبعث حمزة بين يديه . وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وقال : "استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك " . وأمر بخيل أخرى ، فكانوا من جانب آخر ، فقال : "لا تبرحوا حتى أوذنكم " . وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل ، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه ، كما قال : "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، وإن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم .

8008 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني [ ص: 284 ] محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا - في قصة ذكرها عن أحد - ذكر أن كلهم قد حدث ببعضها ، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث ، فكان فيما ذكر في ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وقال : "لا يقاتلن أحد ، حتى نأمره بالقتال " . وقد سرحت قريش الظهر والكراع ، في زروع كانت بالصمغة من قناة للمسلمين ، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال : أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب! وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل ، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير ، أخا بني عمرو بن عوف ، وهو يومئذ معلم بثياب بيض ، والرماة خمسون رجلا [ ص: 285 ] وقال : "انضح عنا الخيل بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك " . فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض . واقتتلوا ، حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس ، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبى طالب ، في رجال من المسلمين . فأنزل الله عز وجل نصره وصدقهم وعده ، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم ، وكانت الهزيمة لا شك فيها .

8009 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده قال : قال الزبير : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند ابنة عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ، ما دون إحداهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه [ ص: 286 ] يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا . وصرخ صارخ : "ألا إن محمدا قد قتل "! فانكفأنا ، وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم .

8010 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " ، أي : لقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم .

8011 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " ولقد صدقكم الله وعده " ، وذلك يوم أحد ، قال لهم : "إنكم ستظهرون ، فلا أعرفن ما أصبتم من غنائمهم شيئا ، حتى تفرغوا "! فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به .

التالي السابق


الخدمات العلمية