الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 44 ] باب

ذكر كيفية نقط ما لا يشبع من الحركات ، فيختلس ، أو يخفى ، أو يشم

اعلم أن الحركة المختلسة والمخفاة والمرامة والمشمة في الحقيقة والوزن بمنزلة المشبعة ، إلا أن الصوت لا يتم بتلك ، ولا يمطط اللفظ بها ، فتخفى لذلك على السامع ، حتى ربما ظن أن الحرف المتحرك عار من الحركة ، وأنه مسكن رأسا ؛ لسرعة النطق بالمختلسة ، وتضعيف الصوت وتوهينه بالمخفاة والمرامة . والمشبعة يمطط بها اللفظ ، ويتم بها الصوت ، فتبدو محققة .

فإذا نقط مصحف على مذهب من يختلس حركة بعض الحروف طلبا للخفة ، وتسهيلا للفظ ، ويشبع حركة بعضها ليدل على جواز الوجهين ، واستعمال اللغتين ، وأن القراءة سنة تتبع ، وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء ، من رواية البصريين عنه ، فلتجعل علامة الحركة المختلسة ، إن كانت فتحة ، نقطة فوق الحرف . وإن كانت كسرة ، نقطة تحته . وإن كانت ضمة ، نقطة فيه أو أمامه .

[ ص: 45 ] ولتجعل علامة الحركة المشبعة ، إن كانت فتحة ، ألفا مضجعة ، وقال سيبويه : بعض ألف ممالة ، وإن كانت كسرة ، ياء مردودة صغرى ، وإن كانت ضمة ، واوا صغرى . قال سيبويه : فأما الذين يشبعون فيمططون ، وعلامتهما ياء وواو .

قال أبو عمرو : وهذا عند أهل النقط في المختلف فيه من الحركات خاصة دون المتفق عليه منهن .

فأما الفتحة المختلسة في مذهبه ففي الهاء والخاء ، من قوله : أمن لا يهدي في يونس ، و " هم يخصمون " في ( يس ) . وأما الكسرة المختلسة ففي قوله تعالى : إلى بارئكم ، و عند بارئكم ، وفي قوله : أرنا ، و أرني حيث وقعا . وأما الضمة المختلسة ففي نحو قوله : يأمركم ، و يأمرهم ، و " ما يشعركم " ، و ينصركم .

وأما الحركة المشبعة في مذهبه ؛ ففي ما عدا هؤلاء الكلم ، نحو قوله : يبشرهم ، و لا يحزنهم ، و ويحذركم ، و يسيركم ، وما أشبهه مما تتوالى فيه الحركات .

[ ص: 46 ] ونقط الحركة المخفاة والمرامة كنقط المختلسة سواء ، يجعل في موضعها نقطة فقط . فإذا نقط قوله تعالى : فنعما ، و لا تعدوا ، و يهدي ، و يخصمون ، على مذهب من أخفى حركة العين والهاء والخاء في هؤلاء الكلم من أئمة القراءة جعل تحت العين من فنعما نقطة ، وفوق العين والهاء والخاء من تعدوا ، و يهدي ، و يخصمون نقطة .

وإذا نقط جميع ما تقدم ، مما اختلس الحركة فيه أبو عمرو أو أخفاها أو رامها هو وغيره ، على مذهب من أشبعها فيه جعل علامة الفتحة في قوله : لا تعدوا ، و يهدي ، و يخصمون ألفا صغرى مضجعة فوق العين والهاء والخاء كما ترى ، وجعل علامة الكسر في قوله : بارئكم ، و أرنا ، و أرني ، و فنعما ياء صغرى تحت الهمزة والراء والعين كما ترى ، وجعل علامة الضمة في قوله : يأمركم و يأمرهم ، و ينصركم ، و يشعركم واوا صغرى أمام الراء أو فوقها كما ترى .

فتكون النقط وهذه الحروف الثلاثة فرقا بين ما لم يتم الصوت به من [ ص: 47 ] الحركات ، ولم يشبع اللفظ به منهن ، وبين ما أتم به الصوت ، ومطط به النطق . ويميز الجنسان ، ويبين النوعان ، وتدرك حقيقتهما بذلك .

فإن قال قائل : لم جعلتم علامة الحركة المشبعة في هذا الضرب ألفا وياء وواوا ، وقد أنكرتم ذلك قبل في سائر الحركات ، ودللتم على صحة ذلك بالخبر الذي رويتموه عن أبي الأسود مبتدئ النقط ؟ قيل له : جعلنا ذلك علامتها فيه ؛ ليمتاز الاختلاف ، ويرتفع الإشكال في معرفة الحركة المشبعة وغير المشبعة . ألا ترى أنا لم نستعمل ذلك فيما اتفق على إشباع الحركة فيه ، إذ لم يحتج إلى تمييز ولا فرقان ؟ هذا مع اقتدائنا في ذلك بمن سنه من علماء اللغة ومتقدمي النحاة ، وهو الخليل بن أحمد - رحمه الله - ، وعامة أصحابه ، إذ عدمنا الرواية فيه عمن تقدمه ممن ابتدأ بنقط المصاحف من التابعين وغيرهم .

فصل

قال أبو عمرو : فأما الحركة المشمة في نحو قوله : سيء ، و سيئت ، و قيل ، و " غيض " ، و " سيق " ، و " حيل " ، و " جايء " ؛ فحقيقتها أن ينحى بكسرة أوائل هذه الأفعال نحو الضمة يسيرا ؛ ليدل بذلك على أن الضم الخالص أصلها ، كما ينحى بالفتحة الممالة نحو الكسرة [ ص: 48 ] قليلا ؛ ليدل بذلك أيضا على انقلاب الألف عن الياء ، وليقرب بذلك من كسرة قبلها وبعدها .

فإذا نقطت هذه الحروف على قراءة من أشم أولها الضم ؛ جعل أمام السين والقاف والغين والحاء والجيم نقطة بالحمراء ليدل بذلك على إشمامها ، وأنه نحي بكسرتها نحو تلك الضمة . وإن تركت الحروف عارية من تلك النقطة ، وأخذ ذلك مشافهة عن القراء كان حسنا ؛ لأن القارئ ربما أشبع تلك الضمة ، وأخلصها ، فخرج بذلك عن مذاهب أئمة القراءة . فإن لم يفعل ذلك ، ونحا بالكسرة في ذلك نحو الضمة ، كما يجب ، فجعل النقطة دلالة على ذلك أبين وأدل على النطق .

فصل

وأما الفتحة الممالة في نحو قوله : النار ، و النهار ، و الكافرين ، و النصارى ، و أسارى ، وما أشبه ذلك مما تمال فتحته ، لكسرة تليها ، أو لألف تمال بعدها ، لكسرة أو ياء ، فإنه إن نقطت هذه الفتحة جعلت نقطة تحت الحرف الذي هي عليه ، كما تجعل الكسرة سواء . وذلك من حيث قربت بالإمالة منها . فلذلك جرت في النقط مجراها . كما فعل بالكسرة المشمة المنحو بها نحو الضمة ، فيما تقدم ، حين جعلت ضمة لذلك . وإن خيف إخلاص تلك الكسرة ترك الحرف عاريا منها ، إلى أن تأتي المشافهة على ذلك . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية