الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ستر المؤمن على نفسه

                                                                                                                                                                                                        5721 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن أخي ابن شهاب عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب ستر المؤمن على نفسه ) أي إذا وقع منه ما يعاب فيشرع له ويندب له .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عبد العزيز بن عبد الله ) هو الأويسي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن ابن أخي ابن شهاب ) هو محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري ، ووقع في رواية لأبي نعيم في " المستخرج " من وجه آخر عن عبد العزيز شيخ البخاري فيه " حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن عبد الله ابن أخي ابن شهاب " وقد روى إبراهيم بن سعد عن الزهري نفسه الكبير ، وربما أدخل بينهما واسطة مثل هذا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن ابن شهاب ) في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخرجه مسلم والإسماعيلي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كل أمتي معافى ) بفتح الفاء مقصور اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه وإما سلمه الله وسلم منه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلا المجاهرين ) كذا هو للأكثر وكذا في رواية مسلم ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم بالنصب ، وفي رواية النسفي إلا المجاهرون بالرفع وعليها شرح ابن بطال وابن التين وقال . كذا وقع ، وصوابه عند البصريين بالنصب ، وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع ، كذا قال ، وقال ابن مالك إلا على هذا بمعنى لكن ، [ ص: 502 ] وعليها خرجوا قراءة ابن كثير وأبي عمرو ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك أي لكن امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم وكذلك هنا المعنى . لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون ، فالمجاهرون مبتدأ والخبر محذوف . وقال الكرماني : حق الكلام النصب إلا أن يقال العفو بمعنى الترك وهو نوع من النفي ، ومحصل الكلام كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن ا ه . واختصره من كلام الطيبي فإنه قال : كتب في نسخة " المصابيح " المجاهرون بالرفع وحقه النصب ، وأجاب بعض شراح المصابيح بأنه مستثنى من قوله معافى وهو في معنى النفي ، أي كل أمتي لا ذنب عليهم إلا المجاهرون ، وقال الطيبي : الأظهر أن يقال المعنى كل أمتي يتركون في الغيبة إلا المجاهرون ، والعفو بمعنى الترك وفيه معنى النفي كقوله : ويأبى الله إلا أن يتم نوره والمجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها ، وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به ا ه . والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به . والنكتة في التعبير بفاعل إرادة المبالغة ، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة والمراد الذي يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي ، وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن من المجاهرة ) كذا لابن السكن والكشميهني وعليه شرح ابن بطال ، وللباقين المجانة بدل المجاهرة . ووقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد وإن من الإجهار كذا عند مسلم ، وفي رواية له الجهار وفي رواية الإسماعيلي الإهجار وفي رواية لأبي نعيم في المستخرج وإن من الهجار فتحصلنا على أربعة أشهرها الجهار ثم تقديم الهاء وبزيادة ألف قبل كل منهما ، قال الإسماعيلي : لا أعلم أني سمعت هذه اللفظة في شيء من الحديث ، يعني إلا في هذا الحديث . وقال عياض : وقع للعذري والسجزي في مسلم الإجهار وللفارسي الإهجار وقال في آخره : وقال زهير الجهار ، هذه الروايات من طريق ابن سفيان وابن أبي ماهان عن مسلم ، وفي أخرى عن ابن سفيان في رواية زهير الهجار ، قال عياض : الجهار والإجهار والمجاهرة كله صواب بمعنى الظهور والإظهار ، ويقال جهر وأجهر بقوله وقراءته إذا أظهر وأعلن لأنه راجع لتفسير قوله أولا إلا المجاهرون قال وأما المجانة فتصحيف وإن كان معناها لا يبعد هنا ; لأن الماجن هو الذي يستهتر في أموره وهو الذي لا يبالي بما قال وما قيل له . قلت : بل الذي يظهر رجحان هذه الرواية لأن الكلام المذكور بعده لا يرتاب أحد أنه من المجاهرة فليس في إعادة ذكره كبير فائدة ، وأما الرواية بلفظ المجانة فتفيد معنى زائدا وهو أن الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان ، والمجانة مذمومة شرعا وعرفا ، فيكون الذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين : إظهار المعصية وتلبسه بفعل المجان ، قال عياض : وأما الإهجار فهو الفحش والخناء وكثرة الكلام ، وهو قريب من معنى المجانة ، يقال أهجر في كلامه ، وكأنه أيضا تصحيف من الجهار أو الإجهار وإن كان المعنى لا يبعد أيضا هنا ، وأما لفظ الهجار فبعيد لفظا ومعنى لأن الهجار الحبل أو الوتر تشد به يد البعير أو الحلقة التي يتعلم فيها الطعن ولا يصح له هنا معنى ، والله أعلم . قلت : بل له معنى صحيح أيضا فإنه يقال هجر وأهجر إذا أفحش في كلامه فهو مثل جهر وأجهر ، فما صح في هذا صح في هذا ، ولا يلزم من استعمال الهجار بمعنى الحبل أو غيره أن لا يستعمل مصدرا من الهجر بضم الهاء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( البارحة ) هي أقرب ليلة مضت من وقت القول ، تقول لقيته بالبارحة ، وأصلها من برح إذا زال . وورد في الأمر بالستر في الأمر حديث ليس على شرط البخاري وهو حديث ابن عمر رفعه اجتنبوا هذه القاذورات التي [ ص: 503 ] نهى الله عنها ، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله الحديث أخرجه الحاكم ، وهو في " الموطأ " من مرسل زيد بن أسلم ، قال ابن بطال : في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين ، وفيه ضرب من العناد لهم ، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف ، لأن المعاصي تذل أهلها ، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حدا ، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه ، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة ، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك ، وبهذا يعرف موقع إيراد حديث النجوى عقب حديث الباب ، وقد استشكلت مطابقته للترجمة من جهة أنها معقودة لستر المؤمن على نفسه والذي في الحديث ستر الله على المؤمن ، والجواب أن الحديث مصرح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم مدح من يستتر ، وأيضا فإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه ، فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره ، ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس من الله عليه بستره إياه ، وقيل إن البخاري [ يشير ] بذكر هذا الحديث في هذه الترجمة إلى تقوية مذهبه أن أفعال العباد مخلوقة لله .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية