الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 96 ] فصل

قال الرازي: "أما الأخبار فهذا النوع فيها كثير، فالأول قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: "مرضت [فلم] تعدني، استطعمتك فما أطعمتني، استسقيتك فما سقيتني": ولا يشك كل عاقل أن المراد بها التمثيل فقط".

والكلام على هذا أن يقال:

هذا فيه من قلة المعرفة بأحاديث الرسول ومعنى التأويل ما به يضل الجهول، وذلك أن هذا الحديث الصحيح له تمام آخر ذكر فيه تفسيره، وأظهر فيه معناه، ففي صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم [قال: "يقول الله تعالى يوم القيامة: [ ص: 97 ] يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. فيقول: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ ويقول: يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني. فيقول: أي رب، وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟ قال: ويقول: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني. فيقول: أي رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي".

فإذا كان الرب لما قال لعبده: مرضت وجعت، قال: كيف أعودك وكيف أطعمك، قال: إن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده، وعبدي فلان جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، فهل يكون في إظهار المعنى وبيانه وكشفه وإيضاحه أبلغ [ ص: 98 ] من هذا الخطاب، وإذا كان المتكلم قد أظهر المعنى وبينه كيف يجوز أن يقول: لا بد من التأويل في هذا الظاهر. والتأويل: صرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى غيره، فهل يجوز صرف هذا الكلام بتمامه عن هذا المعنى الذي أظهره المتكلم؟ بل [لو] قيل له: تأويل هذا الحديث كفر وضلال لكان متوجها.

فإن التأويل هو صرفه عن المعنى الظاهر إلى غيره، فالمعنى الذي أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم المتكلم به هو [أن] المراد بقوله جعت: جوع عبدي، ومرضت: مرض عبدي، فإن جاز أن يصرف عن هذا المعنى اقتضى ذلك أن يكون الله نفسه هو الجائع، المريض، وذلك كفر صريح.

ولكن هذا المؤسس لم يذكر إلا بعض الحديث، وكأنه ما سمع إلا ذلك، فلو كان الحديث ليس فيه إلا اللفظ الذي ذكره لكان لكلامه مساغ، وقيل: إنه يتأول ولكن ليس الأمر كذلك.

ودعواه كثرة احتياج الأخبار إلى التأويل هو لقلة معرفتهم بها، فإنهم لا يميزون بين صدقها وكذبها، فكثيرا ما يسمعون الكذب ويعتقدونه من جنس الصدق مبدلا مغيرا، إما مزيدا فيه، وإما منقوصا منه، وإما مغيرا في إعرابه، كما وجدنا ذلك لهم، ثم يكون حاجته إلى التأويل بحسب ذلك، وهذا لا يمكن [ ص: 99 ] في القرآن لأن حروف القرآن محفوظة.

وأما قوله: "ولا يشك عاقل أن المراد منها التمثيل فقط". فلفظ التمثيل مجمل فليس المقصود مجرد التمثيل بأن يكون قد جعل عائد العبد كأنه قد عاد الله إذا مرض في نفسه، ومطعم العبد كأنه مطعم الله إذا جاع في نفسه، فيكون قد مثل عيادة عبده وإطعامه بعيادته وإطعامه، بل حمل هذا الحديث على هذا المعنى ضلال وإشراك وتشبيه لله بخلقه، ورد لمعناه الحق، وذلك أن التمثيل إنما يكون إذا كان الحكم في الأصل صحيحا ثم قدر وجوده في الفرع، والله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يطعم، ولا يجوز أن يمرض ويعاد حتى يقال: جعل إطعام عبده وعيادته مثل إطعامه وعيادته.

وأيضا فإنه قد فسر المراد فقال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده، وعبدي فلان جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، فبين أني أنا عند عبدي، فإذا عدته كنت عائدا إلي بهذا المعنى، وإذا أطعمته كنت أنا الذي أقبض الصدقة وآخذها فهي لك عندي، وجعل نفسه مريضا، وجائعا [ ص: 100 ] لمرض العبد الذي يحبه وجوعه، كما قال: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه".

ولو أريد مجرد التمثيل لقيل: لو عدته لكنت كأنك قد عدتني، ولو أطعمته لكنت كأنك أطعمتني، وهذا باطل.

التالي السابق


الخدمات العلمية