الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل توبة الخواص

قال : وتوبة الخواص من تضييع الوقت ، فإنه يفضي إلى درك النقيصة ، ويطفئ نور المراقبة ، ويكدر عين الصحبة .

[ ص: 278 ] ليس مراده بتضييع الوقت إضاعته في الاشتغال بمعصية أو لغو ، أو الإعراض عن واجبه وفرضه ، فإنهم لو أضاعوه بهذا المعنى لم يكونوا من الخواص ، بل هذه توبة العامة بعينها ، والوقت عند القوم أخص منه في لغة العرب ، حتى إن منهم من يقول : الوقت هو الحق ، ومنهم من يقول : استغراق رسم العبد في وجود الحق ، يشيرون إلى الفناء في حضرة الجمع ، والغالب على اصطلاحهم أنه من الإقبال على الله بالمراقبة ، والحضور والفناء في الوحدانية ، ويقولون : هو صاحب وقت مع الله ، فخصوا الوقت بهذا الاسم تخصيصا للفظ العام ببعض أفراده ، وإلا فكل من هو مشغول بأمر يعنى به فان في شهوده وطلبه ، فله وقت معه ، بل أوقاته مستغرقة فيه .

فتوبة هؤلاء من إضاعة هذا الوقت الخاص الذي هو وقت وجد صادق ، وحال صحيحة مع الله لا يكدرها الأغيار .

وربما يمر بك إشباع القول في الوقت والفرق بين الصحيح منه والفاسد فيما بعد إن شاء الله .

والقصد أن إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك النقيصة ، إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال ، فإذا أضاعه لم يقف موضعه ، بل ينزل إلى درجات من النقص ، فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد ، فالعبد سائر لا واقف ، فإما إلى فوق ، وإما إلى أسفل ، إما إلى أمام وإما إلى وراء ، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة ، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو النار ، فمسرع ومبطئ ، ومتقدم ومتأخر ، وليس في الطريق واقف البتة ، وإنما يتخالفون في جهة المسير ، وفي السرعة والبطء إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ولم يذكر واقفا ، إذ لا منزل بين الجنة والنار ، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة ، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة .

فإن قلت : كل مجد في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور ، ثم ينهض إلى طلبه .

قلت : لا بد من ذلك ، ولكن صاحب الوقفة له حالان : إما أن يقف ليجم نفسه ، ويعدها للسير ، فهذا وقفته سير ، ولا تضره الوقفة ، فإن لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة .

[ ص: 279 ] وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه ، وجاذب جذبه من خلفه ، فإن أجابه أخره ولا بد ، فإن تداركه الله برحمته ، وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره ، نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع ، ووثب وجمز واشتد سعيا ليلحق الركب ، وإن استمر مع داعي التأخر ، وأصغى إليه لم يرض برده إلى حالته الأولى من الغفلة ، وإجابة داعي الهوى ، حتى يرده إلى أسوأ منها وأنزل دركا ، وهو بمنزلة النكسة الشديدة عقيب الإبلال من المرض ، فإنها أخطر منه وأصعب .

وبالجملة فإن تدارك الله سبحانه وتعالى هذا العبد بجذبة منه من يد عدوه وتخليصه ، وإلا فهو في تأخر إلى الممات ، راجع القهقرى ، ناكص على عقبيه ، أو مول ظهره ، ولا قوة إلا بالله ، والمعصوم من عصمه الله .

وقوله : ويطفئ نور المراقبة .

يعني أن المراقبة تعطي نورا كاشفا لحقائق المعرفة والعبودية ، وإضاعة الوقت تغطي ذلك النور ، وتكدر عين الصحبة مع الله ، فإن صاحب الوقت مع صحبة الله ، وله مع الله معية خاصة ، بحسب حفظه وقته مع الله ، فإن كان مع الله كان الله معه ، فإذا أضاع وقته كدر عين هذه المعية الخاصة ، وتعرض لقطع هذه الصحبة ، فلا شيء أضر على العارف بالله من إضاعة وقته مع الله ، ويخشى عليه إن لم يتداركه بالرجوع أن تستمر الإضاعة إلى يوم القيامة ، فتكون حسرته وندامته أعظم من حسرة غيره وندامته ، وحجابه عن الله أشد من حجاب من سواه ، ويكون حاله شبيها بحال قوم يؤمر بهم إلى الجنة ، حتى إذا عاينوها وشاهدوا ما فيها ، صرفت وجوههم عنها إلى النار ، فإذن توبة الخواص تكون من تضييع أوقاتهم مع الله التي تدعو إلى هذه الأمور .

التالي السابق


الخدمات العلمية