الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تلك القرى نقص عليك من أنبائها جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة، وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم، واللام للعهد، وجوز أن تكون للجنس، وهو مبتدأ، والقرى صفته والجملة بعده خبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ، والقرى خبر، والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة، وأن تكون الجملة حالا، وإفادة الكلام بالتقييد بها، واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال، وعلى تقدير كون ذلك خبرا بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى [ ص: 15 ] المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال. انتهى، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع؛ فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف؛ لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال، كما ذكره الزجاج في نحو: هذا زيد قائما. إذا جعل قيدا للخبر، إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد، وإلا جاء الإحالة؛ لأنه يكون زيد قائما كان أو لا، وإذا جعل خبرا بعد خبر (فتلك القرى) على أسلوب ذلك الكتاب على أحد الوجوه، (ونقص) خبر ثان تفخيما على تفخيم، حيث نبه على أن لها قصصا وأحوالا أخرى مطوية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطيبي: إن الحال لما كانت فضلة كان الإشكال قائما في عدم إفادة الخبر، فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه، وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك: هذا حلو حامض، وهو بمنزلته، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو، ومثله، بل أدهى وأمر. الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد، و (من) للتبعيض أي: بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه: ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات لما ذكره شيخ الإسلام من أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع، والباء في قوله تعالى: ( بالبينات ) متعلقة إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية، وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله، أي: متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة، لا أن كل رسول جاء ببينة واحدة، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد؛ لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت، مثلا إذا قيل: باع القوم دوابهم، يفهم أن كلا منهم باع ما له من دابة، ويجوز أن تتعدد دابة البعض، ولهذا قيل في قوله سبحانه: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب، والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه؛ إن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله عز شأنه: فما كانوا ليؤمنوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم، ونظير ذلك: ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدا وصنعا حادثا كما في: وعظته فلم ينزجر، ودعوته فلم يجب، واللام لتأكيد النفي، أي: فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا، بل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان، ثم إن كان المحكي آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي، وبما أشير إليه بقوله تعالى: بما كذبوا من قبل تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت الإصرار والعناد، وهذا معنى كلام الزجاج: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها، يعني أول ما جاءوهم فجاءوهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب، وإلى هذا ذهب الحسن أيضا، وإنما لم [ ص: 16 ] يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانا بأنه بين في نفسه، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول، والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجابا وسلبا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكي أحوال كل قوم منهم فالمراد على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى آخر أمرهم، وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا تقبل التبدل والتغير، واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها، كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد، وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص؛ فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وقيل: المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب، والربيع والسدي ومقاتل، واختاره الطبري.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن مجاهد، أن الآية على حد قوله تعالى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم، وعلى هذا فالمراد بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء، وأيا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع، وقيل: ضمير ( كذبوا ) راجع إلى أسلافهم، والمعنى: فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وذهب الأخفش إلى أن الياء سببية وما مصدرية، والمعنى عليه كما قيل: فما كانوا ليؤمنوا الآن أي: عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب، الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل.

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك أي: مثل ذلك الطبع الشديد المحكم يطبع الله على قلوب الكافرين أي: قلوبهم، فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر، وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم، ويجوز -ولعله الأولى- أن يراد بالكافرين ما يشمل المذكورين وغيرهم، وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية