الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 426 ] ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها غضب المنصور على كاتبه أبي أيوب المورياني وسجنه ، وسجن أخاه خالدا وبني أخيه الأربعة; سعيدا ومسعودا ومخلدا ومحمدا ، وطالبهم بالأموال الكثيرة . وكان سبب ذلك ما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر المنصور ، وهو أنه كان في زمن شبيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شيء له ، ولا معه ، فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئا تزوج به امرأة ، ثم جعل يعدها ويمنيها أنه من بيت سيصير إليهم الملك سريعا ، فاتفق حبلها منه ، ثم تطلبه بنو أمية ، فهرب عنها ، وتركها حاملا ، ووضع عندها رقعة فيها نسبه; أنه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، وأمرها إذا بلغها أمره أن تأتيه ، وإذا ولدت غلاما أن تسميه جعفرا ، فولدت غلاما فسمته جعفرا ، ونشأ الغلام فتعلم الكتابة ، وغوى العربية والأدب ، وأتقن ذلك إتقانا جيدا ، ثم آل الأمر إلى بني العباس ، فسألت عن السفاح ، فإذا هو ليس صاحبها ، ثم قام المنصور ، وسافر الولد إلى بغداد فاختلط بكتاب الرسائل ، فأعجب به أبو أيوب المورياني صاحب ديوان الإنشاء للمنصور ، وحظي عنده وقدمه على غيره ، فاتفق حضوره معه بين يدي الخليفة ، فجعل الخليفة يلاحظه ، ثم بعث يوما الخادم ليأتيه [ ص: 427 ] بكاتب ، فدخل ومعه ذلك الغلام ، فكتب بين يدي الخليفة كتابا ، وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله ، ثم سأله عن اسمه ، فأخبره أنه جعفر ، فقال : ابن من؟ فسكت الغلام ، فقال : ما لك لا تتكلم؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن من خبري كيت وكيت ، فتغير وجه الخليفة ، ثم سأله عن أمه فأخبره ، وسأله عن أحوال بلد الموصل ، فجعل يخبره والغلام يتعجب ، ثم قام إليه الخليفة ، فاحتضنه وقال : أنت ابني . ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة حال الزوج .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج الغلام ومعه ذلك من باب سر الخليفة ، فأحرز ذلك ، ثم جاء إلى أبي أيوب ، فقال : ما أبطأ بك عند الخليفة؟ فقال : إنه استكتبني في رسائل كثيرة . ثم تقاولا ، ثم فارقه الغلام مغضبا ، ونهض من فوره ، فاستأجر إلى الموصل ليعلم أمه ، ويحملها وأهلها إلى بغداد إلى مكان منها أمر به الخليفة . فسار مراحل ، ثم سأل عنه أبو أيوب ، فقيل : سافر . فظن أبو أيوب أن هذا قد أفشى شيئا من أسراره إلى الخليفة وفر منه ، فبعث في طلبه رسولا وقال : حيث وجدته فرده علي . فسار الرسول في طلبه ، فوجده في بعض المنازل ، فخنقه وألقاه في بئر ، وأخذ ما كان معه ، فرجع به إلى أبي أيوب ، فلما وقف أبو أيوب على الكتاب أسقط في يده ، وندم على بعثه خلفه ، وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه ، فبعث من كشف خبره ، فإذا رسول أبي أيوب قد لحقه وقتله ، فحينئذ استحضر أبا أيوب ، وألزمه بأموال عظيمة ، وما زال تحت العقوبة حتى استصفى جميع أمواله وحواصله ، ثم قتله ، وقال : هذا قتل حبيبي . وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزنا شديدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 428 ] وفيها خرجت الخوارج من الصفرية وغيرهم ببلاد إفريقية ، فاجتمع منهم ثلاثمائة ألف وخمسون ألفا ، ما بين فارس وراجل ، وعليهم أبو حاتم الإباضي ، وأبو عاد ، وانضم إليهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفا ، فقاتلوا نائب إفريقية ، فهزموا جيشه وقتلوه ، وهو عمر بن حفص بن عثمان ابن أبي صفرة الذي كان نائب السند فعزله المنصور عنها بسبب مبايعته محمد بن عبد الله بن حسن ، وولاه هذه البلاد فقتلته الخوارج ، رحمه الله ، وأكثرت الخوارج الفساد في البلاد ، وقتلوا الحريم والأولاد ، وآذوا عامة العباد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ألزم المنصور الناس بلبس قلانس سود طوال جدا ، حتى كانوا يستعينون على رفعها من داخلها بالقصب ، فقال أبو دلامة الشاعر في ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنا نرجي من إمام زيادة فزاد الإمام المصطفى في القلانس     تراها على هام الرجال كأنها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      دنان يهود جللت بالبرانس

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري ، فأسر خلقا كثيرا من الروم ما ينيف على ستة آلاف أسير ، وغنم أموالا جزيلة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس المهدي ابن المنصور . وكان على نيابة مكة والطائف محمد بن إبراهيم ، وعلى المدينة الحسن بن زيد ، ، وعلى الكوفة محمد بن سليمان ، وعلى البصرة يزيد بن منصور ، وعلى مصر محمد بن سعيد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 429 ] وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان ولاه المنصور في هذه السنة اليمن . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي أبان بن صمعة ، وأسامة بن زيد الليثي ، وثور بن يزيد الحمصي ، والحسن بن عمارة ، وفطر بن خليفة ، ومعمر ، وهشام بن الغاز . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية