الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : معنى ذلك : "اصبروا على دينكم وصابروا الكفار ورابطوهم" .

ذكر من قال ذلك :

8386 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، [ ص: 502 ] عن المبارك بن مؤمل ، عن الحسن : أنه سمعه يقول في قول الله : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : أمرهم أن يصبروا على دينهم ، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سراء ولا ضراء ، وأمرهم أن يصابروا الكفار ، وأن يرابطوا المشركين .

8387 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " ، أي : اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله" واتقوا الله لعلكم تفلحون " .

8388 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، يقول : صابروا المشركين ، ورابطوا في سبيل الله .

8389 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : اصبروا على الطاعة ، وصابروا أعداء الله ، ورابطوا في سبيل الله .

8390 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : اصبروا على ما أمرتم به ، وصابروا العدو ورابطوهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على دينكم ، وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي ، ورابطوا أعداءكم .

ذكر من قال ذلك :

8391 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه كان يقول في هذه الآية : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، يقول : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوي وعدوكم ، حتى يترك دينه لدينكم .

[ ص: 503 ] وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوكم ورابطوهم .

ذكر من قال ذلك :

8392 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا جعفر بن عون قال : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في قوله : " اصبروا وصابروا ورابطوا " ، قال : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوكم ، ورابطوا على عدوكم .

8393 - حدثني المثنى قال : حدثنا مطرف بن عبد الله المدني قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب ، فذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : "أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن من منزلة شدة ، يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله يقول في كتابه : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " .

[ ص: 504 ]

وقال آخرون : معنى : "ورابطوا" ، أي : رابطوا على الصلوات ، أي : انتظروها واحدة بعد واحدة .

ذكر من قال ذلك :

8394 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال : حدثني داود بن صالح قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية : " اصبروا وصابروا ورابطوا "؟ قال قلت : لا! قال : إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة . [ ص: 505 ]

8395 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جده ، عن شرحبيل ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلك الرباط" .

8396 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا محمد بن مهاجر قال : حدثني يحيى بن يزيد ، عن زيد بن أبي أنيسة ، [ ص: 506 ] عن شرحبيل ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟" قال : قلنا : بلى يا رسول الله! قال : إسباغ الوضوء في أماكنها ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط .

8397 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا خالد بن مخلد قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به [ ص: 507 ] الدرجات؟" قالوا : بلى يا رسول الله! قال : إسباغ الوضوء عند المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط" .

8398 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

[ ص: 508 ]

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بتأويل الآية ، قول من قال في ذلك : "يا أيها الذين آمنوا" ، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، "اصبروا" على دينكم وطاعة ربكم . وذلك أن الله لم يخصص من معاني"الصبر" على الدين والطاعة شيئا ، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل . فلذلك قلنا إنه عني بقوله : " اصبروا" ، الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى ، صعبها وشديدها ، وسهلها وخفيفها .

" وصابروا" ، يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين .



وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المعروف من كلام العرب في"المفاعلة" أن تكون من فريقين ، أو اثنين فصاعدا ، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة . فإذ كان ذلك كذلك ، فإنما أمر المؤمنين أن يصابروا غيرهم من أعدائهم ، حتى يظفرهم الله بهم ، ويعلي كلمته ، ويخزي أعداءهم ، وأن لا يكون عدوهم أصبر منهم .

وكذلك قوله : " ورابطوا" ، معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك ، في سبيل الله .

قال أبو جعفر : ورأى أن أصل"الرباط" ، ارتباط الخيل للعدو ، كما [ ص: 509 ] ارتبط عدوهم لهم خيلهم ، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء ، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر ، كان ذا خيل قد ارتبطها ، أو ذا رجلة لا مركب له .

وإنما قلنا معنى : " ورابطوا" ، ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم ، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني"الرباط" . وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه ، دون الخفي ، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب ، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من أهل التأويل .

التالي السابق


الخدمات العلمية