الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أنجيناكم من آل فرعون بإهلاكهم وتخليصكم منهم، وإذ إما مفعول به ل (اذكروا) محذوفا بناء على القول بأنها تخرج عن الظرفية، أي اذكروا ذلك الوقت ويكون ذلك كناية عن ذكر ما فيه، وإما ظرف لمفعول اذكروا المحذوف، أي اذكروا صنيعنا معكم في ذلك الوقت، وهو تذكير من جهته تعالى بنعمته العظيمة، وقرئ (نجيناكم) من التنجية، وقرأ ابن عامر: (أنجاكم) فيكون من مقول موسى عليه السلام، وقال بعضهم: إنه على قراءة الجمهور أيضا كذلك، على أن ضمير أنجينا لموسى وأخيه عليهما السلام أو لهما ولمن معهما، أو له وحده عليه السلام مشيرا بالتعظيم إلى تعظيم أمر الإنجاء وهو خلاف الظاهر، وقيل: إنه من كلام الله تعالى تتميما لكلام موسى عليه السلام كما في قوله تعالى: فأخرجنا به أزواجا بعد قوله سبحانه: الذي جعل لكم الأرض مهدا وهو كالتفسير لقوله سبحانه: وهو فضلكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: يسومونكم سوء العذاب أي: يولونكم ذلك ويكلفونكم إياه، إما استئناف بياني، كأنه قيل: ما فعل بهم أو مم أنجوا؟ فأجيب بما ذكر، وإما حال من ضمير المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معا لاشتماله على ضميرهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله عز اسمه: يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم بدل من يسومونكم. مبين له، ويحتمل الاستئناف أيضا، وفي ذلكم الإنجاء أو سوء العذاب بلاء نعمة أو محنة، وقيل: المراد به ما يشملهما. من ربكم أي: مالك أموركم عظيم لا يقادر قدره. وفي الآية التفات على بعض ما تقدم، ثم إن هذا الطلب لم يكن كما قال محيي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية الله تعالى، وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به الآيات، وقيل: إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة، فيكون ذلك ردة منهم، وأيا ما كان فالقائل بعضهم لا كلهم، وقد اتفق في هذه الأمة نحو ذلك؛ فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي واقد الليثي: «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط. فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «سبحان الله» وفي رواية: «الله أكبر» هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الفتح ونحن ألف ونيف، ففتح الله تعالى مكة وحنينا حتى إذا كنا بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط، فكانت تعبد من دون الله، فلما رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صرف [ ص: 43 ] عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها. فقال له رجل: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنها السنن قلتم - والذي نفس محمد بيده - كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة».

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد، ولعل ذلك كان عن جهل يعذر به ولا يكون به كافرا وإلا لأمره صلى الله تعالى عليه وسلم بتجديد الإسلام، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه، والناس اليوم قد اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئا كثيرا لا يحيط به نطاق الحصر، والآمر بالمعروف أعز من بيض الأنوق، والامتثال بفرض الأمر منوط بالعيوق، والأمر لله الواحد القهار.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية