الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      (وقد ذكر بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات) أن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الأفعال والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب، واختيرت العشرة لأنها عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه: تلك عشرة كاملة ، لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها، واستعمال السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية، وجاء أنه عليه السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين، وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين، وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهود الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى الله تعالى ولم يبق منه شيء بل فني بالكلية، وفي العشرة الرابعة كان سلوكه في الله تعالى حتى رزق البقاء بعد الفناء بالإفاقة، قالوا: وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية في الثلاثين والإفاقة بعدها، وكان التكليم في مقام تجلي الصفات، وكان السؤال عن إفراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية، و لن تراني إشارة إلى استحالة الإثنينية وبقاء الإنية في مقام المشاهدة، وهذا معنى قول من قال: رأيت ربي بعين ربي، وقوله سبحانه: ولكن انظر إلى الجبل إشارة إلى جبل الوجود، أي انظر إلى جبل وجودك؛ فإن استقر مكانه فسوف تراني وهو من باب التعليق بالمحال عنده. فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا أي: متلاشيا لا وجود له. وخر موسى عن درجة الوجد. صعقا أي: فانيا. فلما أفاق بالوجود الموهوب الحقاني قال سبحانك أن تكون مرئيا لغيرك. تبت إليك عن ذنب البقية، أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة؛ إذ ليس في الوجود سواك. وأنا أول المؤمنين بحسب الرتبة، أي: أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة، وقد يقال: إن موسى إشارة إلى موسى الروح ارتاض أربعين ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هارون القلب: اخلفني في قومي من الأوصاف البشرية. وأصلح ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة. ولا تتبع سبيل المفسدين من القوى الطبيعية، ولما حصل الروح على بساط القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال: رب أرني أنظر إليك فقال له: هيهات ذاك وأين الثريا من يد المتناول؟ أنت بعد في بعد الإثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن أردت ذلك فخل نفسك وائتني.


                                                                                                                                                                                                                                      وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن وها أنت حي إن تكن صادقا مت     هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا
                                                                                                                                                                                                                                      من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي



                                                                                                                                                                                                                                      فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ رأى عزة المطلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      ونادى:


                                                                                                                                                                                                                                      فقلت لها: روحي لديك وقبضها     إليك ومن لي أن تكون بقبضتي
                                                                                                                                                                                                                                      وما أنا بالشاني الوفاء على الهوى     وشأني الوفا تأبى سواه سجيتي



                                                                                                                                                                                                                                      فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته، ثم من عليه برؤيته، وكان ما كان وأشرقت الأرض [ ص: 55 ] بنور ربها، وطفئ المصباح إذ طلع الصباح، وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم.


                                                                                                                                                                                                                                      ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا     سر أرق من النسيم إذا سرى
                                                                                                                                                                                                                                      وأباح طرفي نظرة أملتها     فغدوت معروفا وكنت منكرا
                                                                                                                                                                                                                                      فدهشت بين جماله وجلاله     وغدا لسان الحال عني مخبرا



                                                                                                                                                                                                                                      هذا والكلام في الرؤية طويل، وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك على الوجه الأكمل، والذي علينا إنما هو: كشف القناع عما يتعلق بالآية، والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية