الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 477 ] ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت هذه السنة وخليفة الناس أبو عبد الله المهدي ابن أبي جعفر المنصور ، فبعث في أولها العباس بن محمد إلى بلاد الروم في جيش كثيف ، وركب معهم مشيعا لهم ، فساروا إليها ، فافتتحوا مدينة عظيمة للروم ومطمورة ، وغنموا غنائم كثيرة ، ورجعوا سالمين ، لم يفقد من المسلمين أحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي حميد بن قحطبة نائب خراسان ، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد ، وولى حمزة بن مالك سجستان ، وولى جبرئيل بن يحيى سمرقند .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة وخندقها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها جهز المهدي جيشا كثيفا إلى بلاد الهند ، فوصلوا إليها في السنة الآتية ، وكان من أمرهم ما سنذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي نائب السند معبد بن الخليل ، فولى المهدي مكانه روح بن حاتم بمشورة وزيره أبي عبيد الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها أطلق المهدي من كان في السجون إلا من كان محبوسا على [ ص: 478 ] دم ، أو ممن يسعى في الأرض فسادا ، أو عنده حق لأحد ، فكان من جملة من أخرج من المطبق يعقوب بن داود مولى بني سليم ، والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن ، وأمر الخليفة بصيرورة الحسن بن إبراهيم إلى نصير الخادم ليحترز عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الحسن قد عزم على الهرب من السجن قبل خروجه منه ، فلما خرج يعقوب بن داود من السجن ، ناصح الخليفة بما كان عزم عليه الحسن بن إبراهيم ، فنقله الخليفة من السجن ، وأودعه عند نصير الخادم ليحتاط عليه ، وحظي يعقوب بن داود عند المهدي جدا حتى صار يدخل عليه في الليل بلا استئذان ، وجعله الخليفة على أمور كثيرة فوضها إليه ، وأطلق له مائة ألف درهم ، وما زال عنده كذلك حتى تمكن المهدي من الحسن بن إبراهيم ، فسقطت منزلة يعقوب عند المهدي . وقد عزل المهدي نوابا كثيرة عن البلاد ، وولى بدلهم عليها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة تزوج المهدي بابنة عمه أم عبد الله بنت صالح بن علي ، وأعتق جاريته الخيزران ، وتزوجها أيضا ، وهي أم الرشيد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها وقع حريق عظيم في السفن التي بدجلة بغداد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما ولي المهدي سأل عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعد المهدي - أن يخلع نفسه من الأمر ، فامتنع على المهدي ، وسأل أن يقيم بأرض الكوفة في ضيعة له ، فأذن له ، وكان قد استقر على إمرة الكوفة روح بن حاتم ، فكتب إلى المهدي : إن عيسى بن موسى لا يأتي الجمعة ولا الجماعة مع الناس إلا [ ص: 479 ] شهرين من السنة ، وإنه إذا جاء يدخل بدوابه إلى داخل باب المسجد ، فتروث دوابه حيث يصلي الناس . فكتب إليه المهدي أن يعمل خشبا على أفواه السكك; حتى لا يصل الناس إلى الجامع إلا مشاة ، فعلم بذلك عيسى بن موسى ، فاشترى قبل الجمعة دار المختار بن أبي عبيد من ورثته ، وكانت ملاصقة المسجد ، فكان يأتي إليها من يوم الخميس ، فإذا كان وقت الجمعة ركب حمارا إلى باب المسجد ، فنزل عنه ، وشهد الصلاة مع الناس ، وأقام بالكلية في الكوفة بأهله ، ثم ألح المهدي على عيسى بن موسى في أن يخلع نفسه من ولاية العهد ، وتوعده إن لم يفعل ، ووعده إن فعل ، فأجابه إلى ذلك ، فأعطاه أقطاعا عظيمة ، وجعل له من المال عشرة آلاف ألف درهم ، وقيل : عشرين ألف ألف . وبايع المهدي لولديه من بعده; موسى الهادي ، ثم لهارون الرشيد ، كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس في هذه السنة يزيد بن منصور خال المهدي ، وكان نائبا على اليمن ، فولاه الموسم ، واستقدمه عليه شوقا إليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وغالب نواب البلاد قد تغيروا في هذه السنة ، غير أن إفريقية مع يزيد بن حاتم ، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة ، وعلى خراسان أبو عون ، وعلى السند بسطام بن عمرو ، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة ، وعلى اليمن رجاء بن روح ، وعلى اليمامة بشر بن المنذر ، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح ، وعلى المدينة عبد الله بن صفوان الجمحي ، وعلى مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن صفوان الجمحي ، وعلى أحداث الكوفة إسحاق بن الصباح الكندي ، وعلى خراجها ثابت بن موسى ، وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي ، وعلى أحداث البصرة عمارة بن حمزة ، وعلى صلاتها عبد الملك بن [ ص: 480 ] أيوب بن ظبيان النميري ، وعلى قضائها عبيد الله بن الحسن العنبري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان : عبد العزيز ابن أبي رواد ، وعكرمة بن عمار ، ومالك بن مغول ، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب المدني ، نظير مالك بن أنس في الفقه ، وربما أنكر على مالك في تركه الأخذ ببعض الأحاديث; لمآخذ كان يراها مالك من إجماع أهل المدينة وغير ذلك من المسالك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية