الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( باب ما جاء في صفة مغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم )

المغفر بكسر الميم وفتح الفاء ، ما يلبس تحت البيضة ، ويطلق على البيضة أيضا ، وأصل الغفر الستر ، كذا في المغرب ، وقيل : هي حلقة تنسج من الدرع على قدر الرأس ، وفي المحكم هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس كالقلنسوة ، وقيل : هو رفرف البيضة [ ص: 199 ] ( حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مالك بن أنس ) أي صاحب المذهب ( عن ابن شهاب ) أي الزهري ( عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه مغفر ) وفي رواية عن مالك : مغفر من حديد ، ويعارضه ما روى مسلم عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ، وأجيب بأن مكة أبيحت له ساعة من نهار ، ولم تحل لأحد بعده ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم ، فلذا دخلها متهيئا للقتال ، وقيل : خصص النهي بما إذا لم يكن ضرورة في حمله ; ولذا دخل عام عمرة القضاء ومعه ومع المسلمين السلاح في القراب ، وأما مجرد حمله فمكروه ، وقيل : المراد من النهي حمل السلاح للمحاربة مع المسلمين ، ويجوز أن يكون النهي بعد فعله صلى الله عليه وسلم على أنه يجوز له ما لا يجوز لغيره ( فقيل له ) أي بعد أن نزع المغفر ( هذا ابن خطل ) بمعجمة ومهملة مفتوحتين اسمه عبد العزى ، فلما أسلم سمي عبد الله ( متعلق بأستار الكعبة ) خبر بعد خبر أي خوفا من قتله ; لأنه كان ارتد عن الإسلام بعد أن كتب الوحي ، وقتل مسلما كان يخدمه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ، واتخذ قينتين تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال العصام : ودخل الكعبة وتعلق بأستارها متمسكا بأن من دخله كان آمنا انتهى . وليس في الحديث ما يدل على دخوله . والتمسك غير صحيح ، فإنه لم يكن مؤمنا ، وإنما تعلق بما هو من عادة الجاهلية ، أنهم كانوا يعظمون من تمسك بذيل الكعبة في كل جريمة ، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم : " من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " ; لأنه من المستثنين لما عند الدارقطني والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أربعة لا أؤمنهم لا في حل ولا في حرم ، الحويرث بن نقيد ، وهلال بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن أبي سرح ، وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في الدلائل نحوه ، لكن قال : أربعة نفر وامرأتان ، وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ( فقال اقتلوه ) ونقل ميرك عن [ ص: 200 ] العسقلاني أنه وقع عند الدارقطني من رواية شبابة بن سوار عن مالك في هذا الحديث من رأى منكم ابن خطل فليقتله ، ومن رواية زيد بن الحباب عن مالك بهذا الإسناد ، كان ابن خطل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعر انتهى .

يعني فكان ذلك سببا لإهدار دمه ، وقيل : سببه أنه صلى الله عليه وسلم بعثه مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار ، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلما فنزل منزلا ، وأمر مولاه أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركا نعوذ بالله من سوء الخاتمة ، ثم توجه الأمر على المخاطبين على فرض الكفاية فسقط عنهم بقتل واحد ، واختلف في قاتله ، وأما قول ابن حجر أو على فرض العين فيلزم كلا المبادرة إلى قتله ، ففيه أنه يلزم منه عصيان الباقي بمبادرة قاتله مع أنه لم يحفظ أن كلا من المخاطبين في الحضرة توجهوا إلى مبادرة قتله ، على أنه يلزم منه تخليته صلى الله عليه وسلم وحده ، وأما قول العصام أنه أمر واحدا منهم بقتله لا جمعا ، فهو من قبيل إسناد البعض إلى جمع بينهم كمال ارتباط ; ولهذا أقدم بقتله سعيد بن حريث وحده على ما ذكره أهل السير ، فغير صحيح لما ذكره القسطلاني في المواهب من أنه روى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وإسناده صحيح مع إرساله ، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله ، وبه جزم جماعة من أهل أخبار السير وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله ، فكان المباشر له منهم أبا برزة ، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله ، ولا ينافيه ما في رواية أنه استبق إليه سعيد بن حريث ، وعمار بن ياسر ، فسبق سعيد عمارا وكان أشد الرجلين فقتله الحديث . قال ميرك : وحكى الواقدي فيه أقوالا منها أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني ، والراجح أنه أبو برزة ، وقيل : قتله الزبير والله أعلم .

وروى الحاكم من طريق أبي معشر عن يوسف بن يعقوب عن السائب بن يزيد قال : وأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة ، فقتل بين المقام وزمزم ، قال ميرك : ورجاله ثقاة ، إلا أن في أبي معشر مقالا ، قال : واختلف في قاتله ، فقيل : سعيد بن زيد ، رواه الحاكم ، وقيل : سعد بن أبي وقاص ، رواه البزار والبيهقي ، وقيل : الزبير بن العوام ، رواه الدارقطني والحاكم والبزار والبيهقي في الدلائل ، وقيل : عمار بن ياسر رواه الحاكم ، وقال البلاذري : أثبت الأقوال أن الذي باشر قتله منهم أبو برزة ، ضرب عنقه بين الركن والمقام .

قال ابن حجر : وليس في الحديث حجة لتحتم قتل سابه صلى الله عليه وسلم الذي قال به مالك وجماعة من أصحابنا ، بل نقل بعضهم فيه الإجماع إلا لو ثبت أنه تلفظ بالإسلام فقتل بعد ذلك ، وأما إذا لم يثبت فلا حجة فيه على أنه لو ثبت لم يكن فيه حجة لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم قتله قصاصا بذلك المسلم الذي قتله ، فهي واقعة حال فعلية محتملة ويؤيده ما قلته أن ابن أبي سرح كان ممن نص صلى الله عليه وسلم على قتله ، لمشابهته لابن خطل فيما مر عنه لما أسلم قبل منه صلى الله عليه وسلم الإسلام [ ص: 201 ] ولم يقتله انتهى . والظاهر أن ابن خطل ارتد ثم في حال ارتداده صدر عنه ما صدر ، فليس من باب المنازع فيه ، وهو الذي يحصل له الارتداد بسبه صلى الله عليه وسلم .

واختلف في استتابته وقبول توبته ، والظاهر أن توبته بشرائطها مقبولة عند الله ، وإنما يقتل حدا أو سياسة قال ابن حجر : وفيه حجة لحل إقامة الحد والقصاص في المسجد حيث لا ينجسه انتهى . وهو غريب من وجهين أحدهما : أن قتله لا يسمى حدا ولا قصاصا ; لأنه كان حربيا ، وثانيهما : أن قتله لا يتصور من غير أن يتنجس المسجد ، ثم أطال بما لا طائل تحته ; ولذا تركنا بحثه قال الحنفي : مع أنه حنفي يعلم منه أن الحرم لا يمنع من إقامة الحدود على من جنى خارجه والتجأ إليه ، وقيل : إنما جاز ذلك له في تلك الساعة انتهى . وفساده ظاهر ; لأن المسألة مفروضة عندنا في من جنى خارج الحرم من المسلمين ثم التجأ فإنه لا يقتص منه ، بل لا يطعم ولا يشرب حتى يضطر إلى الخروج منه ، ثم يقتص ومكة حينئذ كانت دار حرب ، وابن خطل مرتد التحق بالمشركين فوقعت المصالحة بقتل أربعة منهم على القول بأن مكة لم تفتح عنوة .

وأما على الصحيح أن فتحها كان عنوة ، فلا إشكال فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية