الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      (ومن باب الإشارة في الآيات) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها إشارة إلى من ابتلي بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى. ولو شئنا لرفعناه بها إلى حظيرة القدس ولكنه أخلد إلى الأرض أي: مال إلى أرض الطبيعة السفلية واتبع هواه في إيثار السوء فمثله كمثل الكلب في أخس أحواله إن تحمل عليه بالزجر يلهث يدلع لسانه مع التنفس الشديد. أو تتركه يلهث أيضا. والمراد أنه يلهث دائما وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر. ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس وهم مظاهر القهر. لهم قلوب لا يفقهون بها الأسرار. ولهم أعين لا يبصرون بها الحجج الكونية. ولهم آذان لا يسمعون بها الآيات التنزيلية؛ فهم صم بكم عمي. أولئك كالأنعام ليس لهم هم إلا الأكل والشرب. بل هم أضل منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون إذا أرشدوا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يستبعد من طريق العقل ما نقله الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص -قدس سره- أن البهائم مكلفون محتجا بقوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم مع قوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وبما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنه ليؤخذ للشاة الجماء من الشاة القرناء».

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا وإن كان في الشاة لكن لا قائل بالفرق، ونقل عنه القول بأن كل ما في الوجود من حيوان ونبات وجماد حي دراك، ثم قال: فقلت له: فهل تشبيه الحق تعالى من ضل من عباده بالأنعام بيان لنقص الأنعام عن الإنسان أم لكمالها في العلم بالله تعالى؟ فقال رضي الله تعالى عنه: لا أعلم، ولكني سمعت بعضهم يقول: ليس تشبيههم بالأنعام نقصا وإنما هو: لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله عز وجل حتى حارت فيه، فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه، فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى، فأعلى ما يصل إليه العلماء في العلم بربهم سبحانه وتعالى مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال، ولذلك كان من وصفهم سبحانه وتعالى من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن لهم ذلك، والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه لشدة علمها بالله تعالى، وذكر أنها ما سميت بهائم إلا لأن أمرها قد أبهم على غالب الخلق فلم يعرفوه كما عرفه أهل الكشف. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو كلام يورث المؤمن به حسدا للبهائم، نفعنا الله تعالى بها وأعاذنا من الحسد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولله الأسماء الحسنى التي يدبر كل أمر باسم منها. فادعوه بها حسب المراتب وأعلاها الدعاء بلسان الفعل وهو التحلي بمعانيها بقدر ما يتصور في حق العبد وذلك حظ المقربين منها، وذكر حجة الإسلام الغزالي قدس سره أن حظوظهم من معاني أسمائه تعالى ثلاثة: الأول معرفتها على سبيل المكاشفة والمشاهدة حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ وينكشف لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافا يجري الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنة لا بإحساس ظاهره، وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلمين [ ص: 131 ] تقليدا والتصميم عليه وإن كان مقرونا بأدلة جدلية كلامية.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: استعظامهم ما يكشف لهم من صفات الجلال والكمال على وجه ينبعث منه شوقهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان فيأخذوا من الاتصاف بها شبها بالملائكة المقربين عند الله تعالى، والخلو من هذا الشوق لا يكون إلا لأحد أمرين؛ إما لضعف المعرفة، وإما لكون القلب ممتلئا بشوق آخر مستغرقا به. والثالث السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبذلك يصير العبد ربانيا رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة شبيها بهم، وحينئذ لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه ذلك ويكون مقدسا عن الشهوة والغضب؛ فلا تكون أفعاله بمقتضاها بل الداعي إليها حينئذ طلب التقرب إلى الله تعالى، ولا يلزم من هذا إثبات المماثلة بين الله سبحانه وتعالى وبين العبد، وقد قال جل وعلا: ليس كمثله شيء لأن المماثلة هي المشاركة في النوع والماهية لا مطلق المشاركة؛ فالفرس الكيس وإن كان بالغا في الكياسة ما بلغ لا يكون مماثلا للإنسان لمخالفته له بالنوع وإن شابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن المقومات الإنسانية وأنت تعلم بأدنى التفات أنه لا يتصور الشركة بين الله تعالى الحي العليم المريد القادر المتكلم السميع البصير وبين العبد المتصف بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر إلا في إطلاق الاسم لا غير، والكلام في خبر: «لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      يستدعي الخوض في بحر لا ساحل له، فخذ ما آتيناك وذر الذين يلحدون في أسمائه يطلبون معانيها من غيره سبحانه وتعالى ويضيفونها إليه وهؤلاء مما ذرأهم سبحانه وتعالى لجهنم سيجزون ما كانوا يعملون من الإلحاد وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وهم المرشدون الكاملون والذين كذبوا بآياتنا كالمنكرين على هؤلاء الأمة سنستدرجهم من حيث لا يعلمون إنا سنستدرجهم وأملي لهم أمهلهم. إن كيدي أخذي متين شديد، وقد جرت عادة الله تعالى في المنكرين على أوليائه أن يأخذهم أشد أخذ، وقد شاهدنا ذلك كثيرا نعوذ بالله تعالى من مكره، أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وهي الآيات التكوينية، وقد تقدم معنى الملكوت وهو في مصطلح الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم عبارة عن عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس، وفسروا الملك بعالم الشهادة من المحسوسات الطبيعية كالعرش والكرسي وغيرهما، وكل جسم يتركب من الاستقصاءات.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية