الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 60 ] 123 - باب: الدعاء في الركوع

                                761 794 - حدثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ".

                                التالي السابق


                                في هذا الحديث: دليل على الجمع بين التسبيح والتحميد والاستغفار في الركوع والسجود.

                                وخرج الإمام أحمد من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه، قال: لما نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جاء نصر الله والفتح كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، إنك أنت التواب الرحيم " ثلاثا .

                                وأبو عبيدة ، لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه صحيحة.

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي، من حديث عون بن عبد الله ، عن ابن مسعود ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثا، وذلك أدناه ".

                                وهو مرسل، يعني: أن عون بن عبد الله لم يسمع من ابن مسعود -: قاله الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم.

                                وقد روي بهذا الإسناد موقوفا.

                                [ ص: 61 ] وقد روي من وجوه أخر عن ابن مسعود مرفوعا - أيضا - ولا تخلو من مقال.

                                وفي " صحيح مسلم " من حديث حذيفة ، قال: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة - وذكر الحديث، إلى أن قال: ثم ركع فجعل يقول: " سبحان ربي العظيم "، وكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: " سمع الله لمن حمده "، ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: " سبحان ربي الأعلى "، فكان سجوده قريبا من قيامه.

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " والحاكم من حديث موسى بن أيوب الغافقي : حدثني عمي إياس بن عامر ، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني ، قال: لما نزلت: فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اجعلوها في ركوعكم "، فلما نزلت: سبح اسم ربك الأعلى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اجعلوها في سجودكم ".

                                موسى ، وثقه ابن معين وأبو داود وغيرهما، لكن ضعف ابن معين رواياته عن عمه المرفوعة خاصة.

                                وفي " صحيح مسلم " عن عائشة ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في ركوعه وسجوده: " سبوح قدوس، رب الملائكة والروح ".

                                وفيه - أيضا -: عن علي ، أنه وصف صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: وإذا ركع قال: " اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي [ ص: 62 ] وبصري ومخي وعظمي وعصبي " وذكر بقية الحديث.

                                وخرجه الترمذي بمعناه، وعنده: أن ذلك كان يقوله في المكتوبة.

                                وفي إسناد الترمذي لين.

                                ولكن خرج البيهقي هذه اللفظة بإسناد جيد.

                                وخرج النسائي نحو حديث علي من حديث جابر ومحمد بن مسلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                وفي حديث محمد بن مسلمة : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول ذلك في صلاة التطوع.

                                وخرج - أيضا - هو وأبو داود من حديث عوف بن مالك ، قال: قمت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة، يقول في ركوعه: " سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ".

                                وفي الباب أحاديث أخر متعددة يطول ذكرها.

                                والكلام هاهنا في حكم التسبيح في الركوع ، وفي الدعاء فيه.

                                فأما التسبيح في الركوع: فمشروع عند جمهور العلماء.

                                قال جابر : كنا نسبح ركوعا وسجودا، وندعو قياما وقعودا.

                                خرجه البيهقي .

                                [ ص: 63 ] وقال أصحاب مالك : لا بأس به. هكذا في " تهذيب المدونة "، قال: ولا حد له.

                                وأما الجمهور، فأدنى الكمال عندهم ثلاث تسبيحات، وتجزئ واحدة.

                                وروي عن الحسن وإبراهيم أن المجزئ ثلاث.

                                وقد يتأول على أنهما أرادا المجزئ من الكمال، كما تأول الشافعي وغيره حديث ابن مسعود المرفوع الذي فيه: " وذلك أدناه " على أدنى الكمال.

                                وروي عن عمر ، أنه كان يقول في ركوعه وسجوده قدر خمس تسبيحات.

                                وعن الحسن ، قال: التام من ذلك قدر سبع تسبيحات.

                                وعنه، قال: سبع أفضل من ثلاث، وخمس وسط بين ذلك.

                                وكذا قال إسحاق : يسبح من ثلاث إلى سبع.

                                وقالت طائفة، يستحب للإمام أن يسبح خمسا ليدرك من خلفه ثلاثا، هكذا قال ابن المبارك وسفيان الثوري وإسحاق وبعض أصحابنا.

                                ومنهم من قال: يسبح من خمس إلى عشر.

                                وقال بعض أصحابنا: يكره للإمام أن ينقص عن أدنى الكمال في الركوع والسجود، ولا يكره للمنفرد؛ ليتمكن المأموم من سنة المتابعة.

                                ولأصحابنا وجه: أنه لا يزيد على ثلاث.

                                وذكر القاضي أبو يعلى في " الأحكام السلطانية ": أن الإمام المولى إقامة الحج بالناس ليس له أن ينفر في النفر الأول، بل عليه أن يلبث بمنى ، وينفر في اليوم الثالث؛ ليستكمل الناس مناسكهم.

                                [ ص: 64 ] وقال أصحاب الشافعي : لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات - ومنهم من قال: خمس - إلا أن يرضى المأمومون بالتطويل، ويكونون محصورين لا يزيدون.

                                وهذا خلاف نص الشافعي في الإمام، فإنه نص على أنه يسبح ثلاثا، ويقول مع ذلك ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث علي الذي سبق ذكره. قال: وكل ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ركوع أو سجود أحببت أن لا يقصر عنه، إماما كان أو منفردا، وهو تخفيف لا تثقيل.

                                واختلف أصحابنا في [...] الكمال في التسبيح: هل هو عشر تسبيحات، أو سبع؟ ولهم وجهان آخران في حق المنفرد: أحدهما: يسبح بقدر قيامه. والثاني: ما لم يخف سهوا.

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أنس ، قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الفتى - يعني: عمر بن عبد العزيز - قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات.

                                ولو لم يسبح في ركوعه ولا سجوده، فقال أكثر الفقهاء: تجزئ صلاته، وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري والشافعي وغيرهم.

                                وقال أحمد - في ظاهر مذهبه - وإسحاق : إن تركه عمدا بطلت صلاته، [ ص: 65 ] وإن تركه سهوا وجب عليه أن يجبره بسجدتي السهو.

                                وقالت طائفة: هو فرض لا يسقط في عمد ولا سهو، وحكي رواية عن أحمد ، وهو قول داود ، ورجحه الخطابي ، وقد روى الحسن والنخعي ما يدل عليه، وهو قول يحيى بن يحيى ، وعلي بن دينار من أئمة المالكية.

                                قال القرطبي : وقد تأوله المتأخرون بتأويلات بعيدة.

                                ويستدل له بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة: " إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ".

                                وكذلك سمى الله الصلاة تسبيحا، كما سماها قرآنا، فدل على أن الصلاة لا تخلو عن القرآن والتسبيح.

                                وعلى القول بالوجوب، فقال أصحابنا: الواجب في الركوع: " سبحان ربي العظيم "، وفي السجود: " سبحان ربي الأعلى "، لا يجزئ غير ذلك، لحديث ابن مسعود وعقبة ، وقد سبقا.

                                وقال إسحاق : يجزئ كل ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من تسبيح وذكر ودعاء وثناء.

                                وهو قياس مذهبنا في جواز جميع أنواع الاستفتاحات والتشهدات الواردة في الصلاة .

                                وفي " المسند " وغيره، عن أبي ذر ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام ذات ليلة بآية يرددها، بها يقوم، وبها يركع، وبها يسجد. والآية: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم

                                قال أصحاب الشافعي : يستحب أن يأتي بالتسبيح، ثم يقول بعده: " اللهم، [ ص: 66 ] لك ركعت " إلى آخره. كما رواه علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                قالوا: فإن أراد الاقتصار على أحدهما، فالتسبيح أفضل.

                                قال بعضهم: والجمع بين التسبيح ثلاثا، وهذا الذكر أفضل من الاقتصار على التسبيح، وزيادته على الثلاث.

                                وأما الدعاء في الركوع، فقد دل حديث عائشة الذي خرجه البخاري هاهنا على استحبابه، وعلى ذلك بوب البخاري هاهنا، وهو قول أكثر العلماء.

                                وروي عن ابن مسعود .

                                وقال مالك : يكره الدعاء في الركوع دون السجود، واستدل بحديث علي ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم ".

                                خرجه مسلم .

                                وروي عن أحمد رواية، أنه قال: لا يعجبني الدعاء في الركوع والسجود في الفريضة.

                                قال بعض أصحابنا: وهي محمولة على الإمام إذا طول بدعائه على المأمومين أو نقص بدعائه التسبيح عن أدنى الكمال، فأما في غير هاتين الحالتين فلا كراهة فيه.

                                وفي " صحيح مسلم " ، عن أبي هريرة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء ".

                                وفيه - أيضا - عن أبي هريرة ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في [ ص: 67 ] سجوده: " اللهم اغفر ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، وعلانيته وسره ".

                                وخرج النسائي من حديث ابن عباس ، أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في سجوده: " اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا " - وذكر الحديث بطوله.

                                وخرجه مسلم ، وعنده: أنه قال في صلاته، أو في سجوده، بالشك.

                                وفي " المسند " عن عائشة ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذات ليلة في سجوده: " رب اغفر لي ما أسررت وما أعلنت ".

                                وفيه: عنها - أيضا - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذات ليلة في سجوده: " رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ".



                                الخدمات العلمية