الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      (سورة الأنفال) مدنية كما روي عن زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنه سئل الحبر عنها فقال: تلك سورة بدر، وفي رواية أخرى أنه قال: نزلت في بدر، وقيل: هي مدنية إلا قوله سبحانه وتعالى: وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية؛ فإنها نزلت بمكة على ما قاله مقاتل، ورد بأنه صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة، وجمع بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن نظر. واستثنى آخرون قوله تعالى: يا أيها النبي حسبك الله الآية. وصححه ابن العربي وغيره، ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت لما أسلم [ ص: 158 ] عمر رضي الله تعالى عنه وهي في الشامي سبع وسبعون آية، وفي البصري والحجازي ست وسبعون. وفي الكوفي خمس وسبعون. ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن فيها: وأمر بالعرف وفي هذه كثير من أفراد المأمور به. وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، وفي هذه ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه، وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم، وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى: وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وبين جل شأنه فيما تقدم أن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى، وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عز من قائل: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون إلى غير ذلك من المناسبات، والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها، وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد كان يظهر في بادي الرأي أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك في كل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس، وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل، ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره، هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة، وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في السبع الطول؟ ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا، ثم قال: وأقول: يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها: الأول: أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولهذا قال جماعة من السلف: إنهما سورة واحدة. الثاني: أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فإنه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها؛ وذلك كاف في المناسبة. الثالث: أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 159 ] فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها الأغواص. الرابع: أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة؛ فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمسة التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح ب (الر) وبذكر الكتاب، ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي، والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف، ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها، ولو أخرت براءة عن هذه السورة الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول.

                                                                                                                                                                                                                                      ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة (الر) قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح (بالم) وتوالي الطواسين والحواميم وتوالي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل (بالم)، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها، هذا ما فتح الله تعالى به علي، ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعى السبع الطول فقدم الأطول فالأطول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول، وجعل الأنفال بعد النور.

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه المناسبة أن كلا مدنية ومشتملة على أحكام، وأن في النور: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية. وفي الأنفال: واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض إلخ. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة؛ فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل. اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      وأقول: قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا المولى الجليل والحمد لله تعالى على ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك. ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك، وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه، بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف، وذهب جماعة كما قال في إتقانه: إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا، وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة، وقد ذكر ذلك الفيروزأبادي في قاموسه، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال: كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القرينتين؛ فلذلك جعلتهما في السبع الطول، وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد؛ فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة، وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية