الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 231 ] قوله : ( ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام ) .

ش : هذا من باب الاستعارة ، إذ القدم الحسي لا تثبت إلا على ظهر شيء . أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين ، وينقاد إليها ، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه . روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال : من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . وهذا كلام جامع نافع .

وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل ، وهو : أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد ، بل هو دون ذلك بكثير ، فإن العامي يمكنه أن يصير عالما ، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولا ، فإذا عرف العامي المقلد عالما ، فدل عليه عاميا آخر . ثم اختلف المفتي والدال ، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي ، دون الدال ، فلو قال الدال : الصواب معي دون المفتي ، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت ، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت ، فلزم القدح في فرعه ! فيقول له المستفتي : أنت لما شهدت له [ ص: 232 ] بأنه مفت ، ودللت عليه ، شهدت له بوجوب تقليده دونك ، فموافقتي لك في هذا العلم المعين ، لا تستلزم موافقتك في كل مسألة ، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك ، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت ، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ .

والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى ، لا يجوز عليه الخطأ ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره ، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول : هذا القرآن الذي تلقيه علينا ، والحكمة التي جئتنا بها ، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا ، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا ، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحا في ما علمنا به صدقك ، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك ، وكلامك نعرض عنه ، لا نتلقى منه هديا ولا علما ، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول ، ولم يرض منه الرسول بهذا ، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول ، إذ العقول متفاوتة ، والشبهات كثيرة ، والشياطين لا تزال تلقي الوساوس في النفوس ، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به ! ! وقد قال تعالى : وما على الرسول إلا البلاغ ( النور : 54 ) . وقال : فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( النحل : 35 ) . وقال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ( إبراهيم : 4 ) . قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( المائدة : 15 ) . حم والكتاب المبين ( الدخان : 1 - 2 ، والزخرف : 1 - 22 ) . تلك آيات الكتاب المبين ( يوسف : 2 ) . ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( يوسف : 111 ) . [ ص: 233 ] ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ( النحل : 89 ) . ونظائر ذلك كثيرة في القرآن .

فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر : إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أم لا ؟ الثاني باطل ، وإن كان قد تكلم على الحق بألفاظ مجملة محتملة ، فما بلغ البلاغ المبين ، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم ، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين ، فقد افترى عليه صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية